نَخوَةُ العشائرِ العربيَّةِ والرَدُّ على الاحـ ـتلال
يسعى الاحتلال التُّركيّ منذ احتلاله لمناطق من روجآفا وشمال سوريّا، إلى بَثِّ الفتن والنَّعرات الطائفيَّة والدّينيَّة والعرقيَّة والمذهبيَّة بين أبناء الوطن السُّوريّ الواحد، لتكريس سلطة احتلاله وديمومتها، مستغلّاً الأزمة السُّوريّة بكُلِّ تفاصيلها الإنسانيَّة، الماديَّة والمعنويَّة، دون أن يأبَهَ لمعاناة السُّوريّين، داخل سوريّا وحتّى على أراضيه.
ليس خافياً على أحد أنَّ دولة الاحتلال حاولت في مرّات سابقة اللَّعب على وتر العشائر العربيّة والكُرديَّة في سوريّا، وتأليبها ضُدَّ الإدارة الذّاتيَّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، وتقديم إغراءات لبعض رؤساء ووجهاء العشائر في المناطق التي يَحتلُّها، إلا أنَّ جميع محاولاته باءت بالفشل.
يعمد الاحتلال في الفترة الرّاهنة على إعادة ترتيب أوراقه، وبما يتماشى مع الخطوة الجديدة التي أقدم عليها في تطبيع العلاقات مع الحكومة السُّوريّة، وتنفيذ ولو جزء من استحقاقات المصالحة، وإن كان بشكل موارب، وأوَّلها تصفية بعض فصائل مرتزِقته، وتجهيز بعض الآخر لِيَنضَمَّ إلى قوّات الحكومة السُّوريّة. فكُلُّ جهوده في هذه المرحلة تَصُبُّ في تطويع قسم كبير من مرتزِقته – وخاصَّةً العرب السُنَّة منهم – وترويضهم للقبول بمشروع المصالحة، وحتّى أنه يعمل على فرض شروط المصالحة عليهم قبل غيرهم.
إحدى المكوّنات التي يعمل الاحتلال على إعادة هندستها وتكييفها لشروط احتلاله مَرَّةً أخرى، هي العشائر العربيَّة في المناطق المُحتلَّة. فبعد أن تكشَّفت عورة الاحتلال بأنَّه يدفع بمرتزِقته من التُّركمان لتصدُّر المشهد العسكريّ والسِّياسيّ في تلك المناطق، عبر تقديم الدَّعم لها ومنحها دوراً رئيسيّاً في إدارة الملفّات الأمنيَّة والعسكريّة والاقتصاديّة والسِّياسيّة، منها محاولته الأخيرة في إملاء شروطه على زعماء وشيوخ تلك العشائر لتقف مع مرتزِقتها التُّركمانيَّة من أمثال “السُّلطان مراد، العمشات، الحمزات” في قتال قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، ومساندة الفصائل المُسلَّحة ممّا تُسمّى “قوّات العشائر” التّابعة لحكومة دمشق في شَنِّ هجماتها على قوّات (قسد).
الاجتماع الذي عقد في مدينة سري كانيه/ رأس العين المُحتلَّة بين متزعّمين من مرتزِقة كُلٍّ من “السُّلطان مراد، العمشات والحمزات” إضافة إلى وجهاء من قبائل “عدوان، حرب، مخموري والبكَّارة”، طرح فيه قادة فصائل المرتزِقة على رؤساء العشائر دعوة أبناء عشائرهم للانخراط في صفوفهم، ومساندة الفصائل المُسلَّحة التي هاجمت مناطق دير الزور في صراعها مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة (قسد).
أبدى شيوخ ورؤساء العشائر موقفاً حاسماً وحازماً أمامهم، رفضوا فيه طلب مرتزِقة الاحتلال، عندما قالوا معاً: “نحن أبناء منطقة، ولا نستطيع قتالهم”، وهو ما يعكس التوجُّه الوطني لديهم، وعلى النَّقيض من توقُّعات الاحتلال التُّركيّ ومرتزِقته، حيث كان يتوقَّع بأن تنصاع العشائر لأوامره، وتشارك في قتال أبناء جلدتها وأبناء عمومتها من أبناء عشائرها والعشائر الأخرى. فقد تبيَّن أنَّ الرّابطة الوطنيَّة التي تجمع تلك العشائر أقوى من إملاءات الاحتلال وأوامره التي لا تتجاوز سقفها زعزعة أمن واستقرار مناطقهم، خاصَّةً بعد أن خَبِروا جيّداً الاحتلال ومراميه وأهدافه في احتلال مزيد من الأراضي السُّوريّة، وتكريس سلطته الاحتلاليَّة وشرعنتها عن طريق العشائر.
الاحتلال التُّركيّ تلقّى صفعة قويَّةً من هؤلاء الزُّعماء والشّيوخ، ومن حيث لا يدري، فهو لم يتمكَّن من انتزاع الرّوح الوطنيَّة منهم، وظهر أيضاً أنَّ الرّابطة العشائريَّة أقوى من احتلاله، وهو ما ينذر باتّساع دائرة الرَّفض الشَّعبيّ والعشائريّ لمشاريع الاحتلال في قادم الأيّام، خصوصاً مع تطوّر الأحداث وتدحرجها في غير صالح الاحتلال.
فالدَّعوة التي وجَّهها القائد العام لقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة “مظلوم عبدي” خلال اجتماعه مع قيادة “جيش الثوّار” و”قوّات الشَّمال الدّيمقراطيّ قبل عِدَّةِ أيّام؛ بضرورة دعم الحراك الشَّعبيّ المناهض للاحتلال التُّركيّ ومرتزِقته في إدلب وغرب سوريّا، يبدو أنَّها بدأت تتفاعل على الأرض من خلال موقف بعض شيوخ ورؤساء العشائر فيها. كما أنَّ مواقف معظم رؤساء وشيوخ العشائر الكبيرة والتي لها وزنها وثقلها الدّيمغرافيّ والسِّياسيّ في دير الزور، الدّاعمة لقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، ووقوفهم ضُدَّ هجمات حكومة دمشق وميليشيّاتها، هي الأخرى منحت زعماء العشائر في سري كانيه شجاعة إضافيَّة لرفض مبادرات الاحتلال التُّركيّ ومرتزِقته في قتال قوّات (قسد)، لإدراكهم أنَّه في النِّهاية مقاتلي (قسد) ما هم إلا أبناء عشائر دير الزور، أخوتهم وأبناء عمومتهم. والمعروف أنَّ العشائر مرتبطة بشكل وثيق بعلاقة الدَّمِ والقُربى، ولا يمكن لها أن تُفرِّط بها أو تنساق وراء الاحتلال وتترك قِيمَها التي تربَّت عليها خلف ظهرها.
المسألة الأخرى التي يمكن فهمها من الموقف الرّافض لشيوخ وزعماء العشائر، هي إدراكها بأنَّ الاحتلال التُّركيّ يسعى لتقديمهم كبش فداء لحكومة دمشق على مذبح مصالحه، وليس لهم في قتال قوّات (قسد) لا ناقة ولا جمل، على العكس من ذلك سيفقدون دورهم ومكانتهم بين عشائرهم وأبناء العشائر الأخرى. فلا يمكن التَّعويل على الاحتلال في تحقيق أيّ مكسب لصالح عشائرهم لا الآن ولا مستقبلاً، وهذه مسألة في غاية الأهميَّة بالنِّسبة للكيانات العشائريَّة التي تهتَمُّ بمصير أبنائها، وفي كُلِّ منطقة ينتشرون فيها.
إقدام الاحتلال التُّركيّ على فرض واقع التمييز بين مرتزِقتها من العرب والتُّركمان، ومحاولاته التَّضحية بالعرب مقابل تعزيز دور مرتزِقته من التُّركمان، كان هو الآخر له وقعه وأثره لدى زعماء العشائر في إبداء هذا الرَّفض. وخلال الفترة الماضية؛ أرسل الاحتلال التُّركيّ عدداً من مرتزِقته ممَّن يُطلقون على أنفسهم “أحرار الشَّرقيَّة” إلى منطقة سيطرة الحكومة السُّوريّة في دير الزور، بهدف قتال قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، وهو على ما يبدو ترك أثراً عكسيّاً لدى رؤساء العشائر، بأنَّ الاحتلال التُّركيّ يسعى للتخلُّص من العرب، عبر إقحامهم في حروب عبثيَّة، ما يزيد من عدد خصومها. فحالة التمييز بين العرب والتُّركمان باتت واضحة في جميع المناطق المُحتلَّة، حيث يَتُمُّ استبعاد العرب من الوظائف في الدَّوائر التّابعة للاحتلال، إضافة إلى تهميشهم وعدم إيلائهم أيَّ أهميَّة، وتحجيم دورهم في الحياة السِّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيَّة، مقابل تعزيز دور التُّركمان وتَسيُّدِهم لكُلِّ المؤسَّسات والدَّوائر الصُّوريَّة التي أنشأها الاحتلال في المناطق المُحتلَّة.
من جهة أخرى؛ المعارك التي تدور رحاها في عفرين المُحتلَّة بين ما تُسمّى “القوَّة المشتركة” المؤلَّفة من مرتزِقة الفصائل التُّركمانيَّة التي تُدعى “السُّلطان مراد، العمشات والحمزات” مع مرتزِقة “الجبهة الشّاميَّة وصقور الشَّمال”، بعد أن أصدر الاحتلال قراراً بحَلِّ الأخيرة، ما هي إلا جزء من سياسة الاحتلال في إقصاء “العرب السُنَّة” من إدارة تلك المناطق المُحتلَّة واستبعادهم من مراكز القرار السِّياسيّ والعسكريّ، وهو توجُّه بدأ منذ أن أعلن الاحتلال التُّركيّ عن مشروع المصالحة مع دمشق، وسيتوسَّع مستقبلاً ليشمل جميع فصائل المرتزِقة الآخرين، حيث يعمل الاحتلال على إنشاء شريط تركمانيٍّ على طول الحدود مع روجآفا وسوريّا، يكون خالياً من العرب. فبقدر معاداته للكُرد وقواه السِّياسيّة، فإنَّه بذات القدر يعادي العرب ولا يستسيغ وجودهم، لا في المناطق التي يحتلُّها ولا حتّى على أراضيه. حوادث الاعتداء والعنصريَّة تجاه اللّاجئين العرب السُّوريّين في الأراضي التُّركيّة أكثر من تُعَدّ وتحصى، وكُلَّ يوم نرى ونسمع باعتداءات من جانب العنصريّين الأتراك ضُدَّ السُّوريّين، تَشمل حتّى الاعتداء الجنسيّ وحرق محالهم التِّجاريَّة وممتلكاتهم.
ثقافة الرفض غير المتأصِّلة لدى الأتراك، نخباً سياسيَّة وثقافيَّة وأفراداً، لا تكاد ترى تركيّاً لا يحمل بذور الكراهية تجاه غير التُّركيّ، ومقولة “العرب أمَّةٌ سيّئة/ Ereb pis millet” لا يزال يردّدها أكثر الأتراك، والنَّظرة الفوقيَّة والاستعلاء الموجودة لديهم لا يضاهيهم فيها أحد، واللّاجئون العرب في تركيّا يسمعون الكثير من هذه المقولات التي تطعن في كرامتهم كُلَّ يوم، وينتظرون على أحرٍّ من الجمر اليوم الذي يعودون فيه إلى وطنهم ويتحرَّرون فيه من العنصريَّة والعِداء التُّركيّ لهم.
في النِّهاية يمكن التَّعويل على موقف رؤساء وشيوخ العشائر هذا في بناء موقف وطنيٍّ أكثرَ قُوَّةً لرفض الاحتلال التُّركيّ بكُلِّ رموزه ومرتكزاته، والانتقال به إلى مرحلة بناء توافقات تتَّخذ من إخراج قوّات الاحتلال من الأراضي السُّوريّة وتحريرها هدفاً أوَّلاً وأخيراً لها. وأحياناً كثيرة ما يمكن أن تنجزه العشائر قد لا تستطيع أحزاب كبيرة فعله، فهل سنرى تبنّياً لهم، أم سيُطوى هذا الموقف في ملفِّ النِّسيان، لِيُعيدَ الاحتلال تدوير هذا الموقف بما يتوافق مع سياساته ومصالحة.
جميل رشيد/آداربرس
ADARPRESS #
ــــــــــــــــــــــــــــــ
.