مانشيتمقالات رأي

إيران ومسؤوليَّة اغتـ ـيال “نصرُ الله”

جميل رشيد

يُعَدُّ مقتل الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله”، تحوّلاً دراماتيكيّاً كبيراً في مسار الصراع الدّائر في الشَّرق الأوسط والحروب القوميَّة والدّينيَّة والإثنيَّة والمذهبيَّة التي تشهدها العديد من دوله، لجهة نقل الصراع إلى سويّات أخرى، أبرز سماته تأجيج التَّناقضات وإثارة مزيد من الحروب الأهليَّة، وإغراق المنطقة فيها.

لا شَكَّ أنَّ مسلسل العدّ التَّنازليّ للقوّة لدى حركة “حماس” و”حزب الله” وتصفية القيادات الميدانيَّة والسِّياسيّة قد بدأ مع هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأوَّل الماضي، ووجدت فيها إسرائيل فرصة ذهبيَّة لتنفيذ مخطَّطاتها في تصفية قيادات وكوادر الحركتين التي خبَّأتها منذ عشرات السنين. غير أنَّ جوهر تصاعد وتيرة العنف لدى إسرائيل والأطراف الأخرى، يتمثَّل في حسابات أخرى سياسيَّة، أقَلُّ ما يمكن القول عنها بأنَّها “غير نظيفة” وتَصُبُّ في مصالح الجهات الدّاعمة والمُشغّلة لها.

مقتل “نصر الله” ومعظم قيادات الصفِّ الأوَّل والثّاني في سلسلة الغارات الجوّيَّة الإسرائيليَّة طيلة الأسبوعين الماضيين، ليس الهدف منها إزاحة أعداء إسرائيل من الواجهة، بقدر ما هي للقضاء على المنظومة العقائديَّة لحزب الله ومعه حركة “حماس”، لما تُشكِّله من خطر على مصالح إسرائيل والدّول الغربيَّة المتموضعة في المنطقة. وقد قالها رئيس الوزراء الإسرائيليّ “نتنياهو” علناً بأنَّهم بدأوا “بتغيير الشَّرق الأوسط”، ولكن عن طريق العنف والقتل واتّباع سياسة التَّدمير الشّامل.

حجم الاستهداف الكبير للمربَّع الأمنيّ لحزب الله في الضاحية الجنوبيَّة لبيروت، يوحي بأنَّ إسرائيل تلقَّت معلومات مؤكَّدَة ودقيقة عن وجود “نصر الله” والقيادات العسكريّة والسِّياسيّة والدّينيَّة الكبيرة فيه، فاتَّبعت أسلوب الصَّدمة أكثر من قوَّة التَّدمير، لتوجِّهَ رسائل بعدَّةِ اتّجاهات، وبأنَّها “القوَّة التي لا يقف في وجهها أحد”. فالتحوّل في مسار الصراع في المنطقة يتَّجه نحو مزيد من العنف المتطاير، ولن يبقى أحد بمنأى عنه، لطالما أنَّ القوى المُحرِّكة له لا ترى إلى الآن أنَّه قد حان وقت كتابة نهاية له، ليعود الأمن والاستقرار إلى المنطقة.

هرع العديد من المراقبين والخبراء إلى توزيع الاتّهامات يميناً وشمالاً على العديد من الأطراف والدّول في قضيَّة كشف مخبأ “نصر الله” والإدلاء بمعلومات إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، ساعدتها في إنجاح عمليَّة الاغتيال، ومنها إيران.

بداية يجب الإتيان إلى المُسَلَّمة التّالية؛ أنَّه لولا المعلومات الدَّقيقة التي وصلت إسرائيل والولايات المتّحدة عن مكان “نصر الله” لما تمكَّنت إسرائيل من اغتياله، وكذلك كان الأمر بالنِّسبة للعمليّات السّابقة مثل عمليَّة “البيجر” واصطياد القيادات الميدانيَّة الأخرى مثل “فؤاد شكر” قبل شهرين. لا دليل حتّى الآن أنَّ إيران قد تورَّطت في تصفية “نصر الله” وباقي القيادات الأخرى بشكل مباشر، إلا أنَّ حالة الانكفاء الإيرانيّة قبل الاغتيال، والتَّصريحات الصادرة عن كبار مسؤوليها، وخاصَّةً رئيسها الجديد “مسعود بزشكيان” تُفسِّرُ الغموض الذي يلفُّ الدَّور الإيرانيّ في الدَّفع نحو نزع يدها عن حزب الله وقبلها “حماس” وعدم تقديم الحماية الكافية له في الرَدِّ على الاعتداءات الإسرائيليَّة التي طالت قيادات تاريخيَّة في صفوفهما.

خطاب “بزشكيان” في اجتماع الجمعيَّة العامَّة للأمم المتّحدة قبل عمليَّة الاغتيال، حدَّدت توجُّهَ إيران السِّياسيّ والعسكريّ المتمثّل بالانزواء بنفسها، وقبولها المساومة على الحركات التي طالما رعتها طيلة عقود من الزَّمن لتكون اليد الضاربة لها في حماية مصالحها ونفوذها في المنطقة.

الواضح أنَّ إيران لا تفاضل بين مصالحها وبين من تدَّعي أنَّهم “أصدقاؤها وحلفاؤها” ضمن ما تُسمّى “جبهة المقاومة والممانعة”، والرَّئيس الحالي يعمل على رسم مسار جديد لإيران بموافقة من الدَّولة العميقة فيها، ورُبَّما هذه الرّؤية الجديدة في إيران تتجاوز حتّى الخطوط الحمراء التي عادَّة ما يرسمها المرشد الأعلى “علي خامنئي”، ويمكن اعتبار الرَّئيس “بزشكيان” بمثابة “غورباتشوف إيران” ليقود عمليَّة “بيروسترويكا” تطال مفاهيم ونظريّات “تصدير الثَّورة” وخلق بؤر لها في المنطقة، وبالتّالي يمكّن بلاده من انتشال نفسها من الصراع عليها، مقابل المُضيّ قُدُماً في برنامجها النَّووي والحفاظ على الإيديولوجيَّة الشيعية لدولتها.

إنَّ قبول الغرب وعلى رأسها إسرائيل والولايات المتحدة التَّفاهم مع إيران والبدء بالمفاوضات حول الملفٍّ النَّوويّ ورفع العقوبات عنها، يقتضي بالضرورة تحجيم دور أدوات إيران في المنطقة. فإن كان حزب الله قد تلقّى ضربة قاصمة من خلال اغتيال أمينه العام ومعظم قياداته، وكذلك حركة “حماس” رغم الاختلاف الإيديولوجيّ والتوجُّه المذهبيّ بينهما، فإنَّ كُلَّ الأنظار تتّجه إلى سيناريو مشابه لحركة “الحوثيّين” في اليمن، وكذلك “الحشد الشَّعبيّ” في العراق، رغم أنَّ الأخير قد تلبَّس بلبوس الدَّولة ومؤسساتها، وتمكَّن إلى حَدٍّ ما أن يختبئ تحت عباءتها، إلا أنَّ الحركات العقائديَّة وذات الإيديولوجيّات الدّينيَّة المتزمّتة الرّافضة للآخر المختلف معها، لا تستطيع العيش تحت ظلال الدَّولة، تجدها دائماً تجنح لأن تكون ما فوق الدَّولة “كشرعيَّة”، رغم أنَّها كمؤسَّسات وهيئات سياسيَّة وتشكيلات عسكريَّة هي ما دون الدَّولة لجهة القبول والشَّرعيَّة، ولا يمكن أن تكون بأيِّ حالٍ من الأحوال بديلاً عنها، وهذا هو الخطأ القاتل الذي وقع فيه حزب الله في لبنان، حيث اعتبر نفسه بديلاً عن مؤسَّسات الدَّولة اللبنانيَّة وإداراتها، حتّى فاقت قوَّته العسكريّة قوَّة الجيش اللّبنانيّ نفسه من حيث التّسليح والعدد.

بالتَّأكيد ما بعد اغتيال “نصر الله” لن يكون كما قبله، لجهة تسارع الأحداث، ودخول المنطقة مزيداً من الأزمات، خاصَّةً في لبنان.

مشاهد الاعتداءات على بعض اللُّبنانيّين “الشّيعة” من قبل “السُنَّة”، مؤشِّرٌ خطير قد يدخل لبنان مجدّداً في أتّون حرب أهليَّة لا تُحمَدُ عقباها. كما أنَّ المقولة التي درجت لدى بعض الخبراء والمتابعين لشؤون المنطقة غداة تنفيذ إسرائيل ضربة “البيجر” بأنَّ “التكنولوجيا غلبت الإيديولوجيا” قد تكون صحيحة في حالة لبنان، ولكنَّها ليست صحيحة دائماً في كُلِّ زمان ومكان. وهنا نطرح السّؤال التالي: ألا تقاتل إسرائيل ومعها جميع الدّول الدّاعمة لها وفق متطلبات وموجبات إيديولوجيّاتها الرَّأسمالية التوسُّعيَّة النّاهبة؟ لكن الأمر المهمّ في هذا السّياق؛ هو أنَّ الدُّوغمائيَّة الإيديولوجيَّة تدفع نحو الانغلاق على النَّفس وطرح شعارات طوباويَّة لا تَمُتُّ للواقع بصلة، مثال تدمير إسرائيل وإزالتها من الوجود، والتشدُّد المذهبيّ والدّينيّ، كُلَّها أسباب تؤدّي بصاحبها إلى معاداة العالم. وفي حالة حزب الله و”حماس”، نجد صورة مغايرة تماماً لدى راعيتهما الأولى إيران، فهي دولة براغماتيَّة لأبعد الحدود، وتبحث عن مصالحها كدولة حتّى في سمِّ إبرة، ولا تفوِّت على نفسها فرصة التَّفاهم مع أعدائها وخصومها في اللَّحظة التي تُدْرِكُ فيها بأنَّها ستخسر في أيِّ مواجهة حقيقيَّة معهم. وإيران تمارس هذه السِّياسة منذ عهود طويلة، وتجلّى ذلك فيما تُسمّى “فضيحة إيران غيت” أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي.

كيف ستنعكس التطورات المتلاحقة في لبنان والمنطقة على الإدارة الذّاتيَّة الدّيمقراطيَّة، وهل لديها القدرة الدِّبلوماسيَّة والسِّياسيّة على إمساك العصا من المنتصف في إعادة رسم سياساتها وفق المستجدّات الرّاهنة، وتستوعب معادلة التَّوازنات في المنطقة وتكون جزءاً منها؟.

إن كانت إيران قد بدأت لملمة أوراق قوَّتها في المنطقة، والعودة إلى ممارسة سياساتها ضمن حدودها الجغرافيَّة، فما هو الدَّور المُرتقب لتركيّا في المنطقة، وهل ستواجه مصيراً مشابهاً لإيران، لتتكوَّر حول نفسها، وتبدأ مرحلة العَدّ التَّنازلي العكسيّ لِفَيضِ تدخُّلاتها التَّدميريَّة في المنطقة؟ وهل سيشفع لها وجودها ضمن “النّاتو” لأن تتمدَّد أكثر، وتكشف عن رعونتها وصلفها المتوارث من الدَّولة العثمانيَّة بأشكال أكثر عدوانيَّة؟

سنحاول أن نسلِّطَ الضوء على انعكاس التطوّرات في المنطقة على الإدارة الذّاتيَّة وتركيَّا وتوجُّهات كُلٍ منهما في مقال لاحق، ولكنَّ الثّابت أنَّ الإدارة نأت بنفسها عن الصراع اللُّبنانيّ – الإسرائيليّ، وكذلك الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، وظلَّت منشغلة بنفسها وبكيفيَّة حماية مناطقها من الإرهاب والاحتلال، وبناء مؤسَّساتها وهياكلها السِّياسيّة والخدميَّة والإداريَّة، إلا أنَّها رغم ذلك تتأثَّر بمحيطها وقد يطالها بعض الشَّرر المتطاير من ذلك الصراع.

جميل رشيد/آداربرس

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى