مقالات رأي

هاجـ ـس الوطن الحر ووطن الأمة الديمقراطية

رغم أنه يتراءى، أو من شبه الشائع أن لمصطلح الوطن معنى بدهياً واحداً، حيث يذهب التعريف الدارج أو المستخدم في الأدبيات السياسية إلى النظر إلى تعريف الوطن على أنه محل جغرافي تعيش في أرجائه جماعة أو مجموعات من البشر يقيمون هم بأنفسهم دولة، أو تقوم ضمن حدوده دولة ونظاماً اقتصادياً اجتماعياً معيناً، ويطلق وفق مقتضيات هذا التعريف على كل فرد في هذه الجماعة أو المكونات لقب مواطن في دولة ذلك الوطن، وعلى جميع الأفراد لقب مواطنين.

إلا أنه في الواقع الملموس يعد مصطلحاً تختلف دلالته ومعانيه تبعاً لشكل الدولة القائمة، ولطبيعة النظام السياسي المسيطر، وبالتالي تبعاً للثقافة السياسية المتكرسة في البناء الفوقي للمجتمع الخاضع للدولة. وعليه وبالنظر لدور ووزن بعض القيم المتكلسة يصبح مفهوماً كيف يتداخل في أحيان كثيرة وفي ذهن البعض مفهوم الولاء للوطن مع مفهوم الولاء للدولة وحتى مع الولاء للنظام الحاكم.

ولا غرابة في ظهور تصور ملتبس من هذا النمط في خطاب دولة يسيطر على مقاليد الحكم فيها نظام شمولي مستبد يرسم سياساتها حزب واحد وعائلة واحدة أو فرد بعينه، يأخذ شرعيته أو يختلسها من خلال التلطي وراء عقيدة دينية أو قومية، أو خلف كليهما في أكثر الأحيان.

وليس هذا وحسب بل أن حقيقة التعامل مع مسألة الوطن وقضاياه أشد إيلاماً حين تنظر الاتساق الحاكمة إليه على أنه مزرعة لها حق التصرف بها.

ولا مجال للمبالغة في شيء حين نقول: “إن المزرعة المملوكة من قبل الحاكم هي أقرب توصيف لفهم الطغم الاستبدادية ورؤيتها العميقة لفكرة الوطن”، حيث تسوق أبواقها أن كل خير أو تطور يحصل فيه هو شأن أو نعمة من عطاءات ذلك الحاكم بما فيه نزول المطر واحتباسه.

إلا ان ذلك الإيغال في تسفيه ماهية الوطن عند نموذج دولة الاستبداد الشمولية التي تتاجر وتتمركز حول خاصيتها العقائدية والجنسانية الهرمية المتخلفة؛ ليست بنفس السلبية في برامج دولة الحداثة الرأسمالية، ومع الأخذ بعين الاعتبار فإن صورة الوطن هنا مطاطة من حيث الاتساع، وتمتد بامتداد المصالح الرأسمالية وحركة الأسواق، إلا أنها مرتبطة من حيث جوهرها الأخلاقي والحضاري بالمضامين الاجتماعية ومستويات العدالة الاجتماعية ومعدلات الديمقراطية المتاحة لمجتمعاتها.

ورغم إن القاعدة الأساسية في تفكير الماركسية في هذه المسألة تنطلق من المقولة الشهيرة “البروليتاريا لا وطن لها في ظل الرأسمالية، وأن الرأسمالية قد سألتها أوطانها”. فإن الموضوعية تحتم الاستنتاج بأن هذا القول يتركز أهميته في مناخات القرن التاسع عشر أو بدايات وأواسط القرن السابق، ولم يعد صحيحاً البتة الآن.

حيث يجب التنويه إلى أن دولة الحداثة الرأسمالية، وبعد دخولها في طور التنافس الحاد مع الخطاب الشيوعي، ومع التحديات التي فرضتها الدولة الاشتراكية الأولى في روسيا السوفيتية في العام 17 من القرن الفائت؛ اتخذت جانب الحيطة والحذر، واستفادت من أخطائها حين شرعت بالالتفاف عليها ومداورتها، ثم تخميد توتراتها الطبقية من خلال إطلاق برامج الرعاية الاجتماعية، وإفساح المجال أمام حركة المجتمع المدني، وتوفير جو من الحريات السياسية ونشاط الأحزاب.

لكن رغم كل ذلك، ورغم توفر مساحة هامة من الانفراجات الاجتماعية وأجواء الحرية؛ إلا أنه من النافل الإشارة إلى حقيقة مفادها أن الوطن في ظل دولة الحداثة الرأسمالية، ورغم المكاسب المهمة التي تحققت لمجتمعاتها؛ فقد أبقت الوطن والدولة والمجتمع في مواجهة معضلات وتحديات هائلة، ولم تقوى ولأسباب تتعلق بخلل يتصل ببنيتها على معالجة خطر تهديد البيئة، وتعريض الحضارة البشرية والسلم والاستقرار على سطح الكوكب إلى خطر الحروب والزوال، كما لم تستطع أن تتجاوز بشكل كلي الأمراض المرتبطة بالتموضعات الهرمية في لوحة التشكلات الطبقية. أضف إلى ذلك عدم التحرر من مساوئ النزعة الدولتية القومية، وبقاء الجنسانية كقيمة راجحة في دساتيرها وثقافاتها، ناهيك عن نزعة إشعال الحروب، وتسعير سباقات التسلح، وتصدير الحروب والأزمات.

ومن هنا نصل إلى نتيجة مفادها أن كل المقاربات الساعية إلى الوصول إلى وطن معافى تنعم مجتمعاته ومواطنيه بالمساواة والكرامة والعدل والحرية، ورغم التطور الذي وصلت إليه الحضارة البشرية، ومع احتساب المراحل والمحطات التي مرت بها الفلسفة؛ فلا شك أنها كانت مقاربات تكتيكية، ولم تلامس جوهر الحياة الحرة في الصميم إلا مع الفلسفة الاوجلانية؛ التي خَطَّتْ مسلكا مختلفاً عن سائر ما عداها في فهم العلة المتسببة في شقاء البشر، واعتوار المجتمعات والدول والأوطان، وهي عندما تقسم في تحليلها تاريخ البشرية إلى حقبتين، الأولى تاريخ وحقبة طويلة وغير مدونة، والثانية تاريخ وحقبة مدونة فإنها تنسب كل الانحرافات والشرور والظلم والتسلط التي تراكمت عبر الزمن إلى الحقبة الثانية حقبة التاريخ المدون، والتي في أحشائها ولدت الذكورية والهرمية الطبقية، والدولتية الحامية لدوام الاستلاب الطبقي والقهر الاجتماعي. فالعقائدية بكل ألوانها ومدارسها كترتيب ذهني يشرعن كل ما سبق.

أما كيف يرصد هذا التشخيص المعرفي الطرائق والآليات التي نما على سكتها ثالوث الاستلاب الجنساني الذكوري فالهرمي الطبقي وصولاً إلى الدولتي صانع القوة ومبرمجها على طريق الظلم والقهر وإنتاج الحروب. فـ لأنها الأسرة، ولأنها المعقل الأول والأساس في انطلاق رحلة الانكسارات والعذاب.

الأسرة المتأسسة على ملكية الرجل الذكر للزوجة والأبناء بها ومن خلالها تشكل بحسب المفكر الفيلسوف أوجلان “المخفر المتقدم الأول للعدو”، العدو المتمثل بسلطة الاستبداد.

وعلى نحو متصل فإن الأوجلانية الفكرية لا تترك الباب موصداً عبر اتهام الأسرة بصيغتها الأبوية الطبقية وحسب؛ بل تحث الخطأ في بحث متواصل عن أركان وقواعد بديلة عنها، فتجد، وبحكم منطلقاتها المتمركزة حول أسس الحياة الحرة إن البدائل تكمن بتوفير شروط الندّية وبمجتمع الندّية الذي يساوي في العمق بين الرجل والمرأة.

مجتمع الندية الذي سيلتحق به رجل ندّيٌ مختلف أيضاً، ومتحرر من نزعة الذكورية المتفوقة أو المتسلطة سيشكل لا محالة اللبنة الأساسية في بناء الوطن الحر، والذي ستنتعش في ظلاله الشروط الموضوعية لنمو حياة الأمة الديمقراطية التي طالما شكلت الرد والجواب الحاسم حيال إخفاقات مشاريع النظم الدولتية الذكورية الظلامية والظالمة..

كمال حسين/آداربرس

ADARPRESS #

.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى