مانشيتمقالات رأي

الإدارة الذّاتيَّة والخـ ـيارات الصَّـ ـعبة

لا تزال مفاعيل وارتدادات الحرب الدّائرة بين “حزب الله” وإسرائيل تُلقي بظلالها على كامل منطقة الشَّرق الأوسط، على الصعيد السِّياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ، وتنذر بمزيد من التوتّر والعنف، ولتدخل معه المنطقة في نفق مجهول، رغم ادّعاء البعض بـ”تغيير الخارطة السِّياسيّة” فيها.

في خِضَمِّ الحسابات المُتعدِّدة لكُلِّ الأطراف المتورِّطة في الصِّراع الدّائر؛ تسعى كُلُّ قوَّةٍ منها إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، ولو بالدم وعلى حساب الآخرين، فيما حافظت قوى أخرى على توازنها السِّياسيّ والعسكريّ، ولم تجازف في الانحياز إلى أيِّ محور، ولكن هل ستستمرُّ سياسة النَّأي بالنَّفس عن الصِّراع الدّائر والموج المتلاطم، وهل سيكون لتلك السِّياسة جدوى ومعنى في ظِلِّ اتِّساع رُقعة الحريق في المنطقة، والتي باتت تُهدِّدُ الكُلَّ دون استثناء؟

لا شِكَّ أنَّ الصِّراع الرَّئيسيّ في المنطقة يدور بين محورين اثنين: الدّول الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل، وبين إيران وما تُسمّى قوى “الممانعة والمقاومة” الممتدَّة من إيران مروراً بقوى “الحشد الشَّعبيّ” في العراق، والميليشيّات الشّيعيَّة في سوريّا، والحوثيّين في اليمن، وصولاً إلى “حزب الله” في لبنان. ويَضُمُّ هذا المحور أيضاً القوى المنضوية تحت راية حركة “الإخوان المسلمين” في العالم العربيّ، وخاصَّةً في فلسطين ممثَّلة بحركة “حماس” وكذلك في سوريّا.

أثبتت الأسابيع القليلة الماضية، أنَّ التَّصعيد الإسرائيليّ غير الطبيعيّ في سياق الصِّراع الدّائر بينها وبين حزب الله، أنَّ إسرائيل خرجت عن كُلُّ ما هو مألوف في قواعد الاشتباك والحروب، وبدأت تمارس حرب إبادة وتصفية شاملة لكُلِّ ما يَمُتُّ بحزب الله بصلة. وتكشَّف أنَّها تُعِدُّ لمرحلة ما بعد القضاء على حزب الله ومعه كُلّ محور “الممانعة والمقاومة”.

إنَّ سوريّا هي أولى السّاحات والدّول المتأثرة بالصِّراع الدّائر في لبنان، فعداك عن التّواصل الجغرافي والتَّمازج الدّيمغرافيّ بين البلدين، فإنَّ لتواجد قوّات حزب الله وقياداته على الأرض السُّوريّة، وانخراطه في الحرب الدّائرة لصالح الحكومة السُّوريّة، يجعله من أولى الأهداف في المرمى الإسرائيليّ داخل سوريّا، وهو ما ترجمته إسرائيل من خلال استهداف عِدَّةِ مناطق في سوريّا، بزعم وجود قواعد لحزب الله وقوّات تابعة لإيران على الجغرافيَّة السُّوريَّة.

سوريّا المُنهَكة في الحرب، غير قادرة على تفادي الأضرار التي تَلحق بها جرّاء هذا الصِّراع، وهي في هذه الحالة تغدو جزءاً منه، وينعكس عليها في تعميق أزمتها أكثر، ما يُبدِّد معه أيَّ حَلٍّ سياسيٍّ للأزمة في المدى المنظور.

الإدارة الذّاتيَّة في شمال وشرق سوريّا هي أيضاً ضمن دائرة التَّأثير المباشر للحرب الدّائرة في لبنان. والسّؤال الذي يطرح نفسه؛ كيف ستتفادى الإدارة انعكاسات الحرب عليها، وهل تملك القدرة على ذلك، وما هي فرص انتشال نفسها وسط صراع القوى الكبرى على المنطقة؟ وقبل هذا وذاك؛ أين تقف الإدارة من سياسة التَّحالفات في المنطقة، هذا إذا سلَّمنا بأنَّ سياسة الحياد فقدت معناها أمام الانقسامات والاصطفافات الجارية الآن؟

لقد حافظت الإدارة الذّاتيَّة على سَويَّةٍ معيَّنة من العلاقات مع مختلف الأطراف الفاعلة في الأزمة السُّوريّة، وحتّى مع القوى الكبرى. عملها مع قوّات التَّحالف الدّوليّ في مكافحة الإرهاب طيلة عشر سنوات، منحها نوعاً من الانفتاح السِّياسيّ على مختلف القوى والدّول في المنطقة والعالم، ولاقت سياساتها قبولاً معقولاً، رغم الاعتراضات التُّركيّة المتواصلة عليها.

فالإدارة لم تمارس سياسة العِداء ضُدَّ أيّ من تلك القوى، ما فتح الأبواب أمامها لتشارك في النِّقاشات والحوارات الدّائرة لوضع حلول سياسيَّة للأزمة السُّوريّة. ولولا الاعتداءات التُّركيّة على مناطق الإدارة منذ عام 2018؛ بالتَّأكيد لقطعت شوطاً طويلاً في رسم مسار معيّن لحَلِّ الأزمة، ولكن انشغالها في التصدّي لعمليّات الغزو التُّركيّة المتتالية، أثَّرت على فاعليَّتها السِّياسيّة نوعاً ما.

غير أنَّ الإدارة الآن في منعطَفٍ تاريخيٍّ هامٍّ، لجهة تحديد خياراتها الإستراتيجيَّة في التوجُّه نحو العمل والتَّنسيق مع الدّول الغربيّة في تحديد مصير المنطقة، أو التوجُّه نحو إيران ومحور “الممانعة” ومعها روسيّا، رغم صعوبة الخيار وبما يحمله من انعكاسات سلبيَّة وإيجابيَّة على المَدَيَيْن القريب والبعيد، إلا أنَّ خيار لا بُدَّ منه.

الثَّابت أنَّ الإدارة، ومن خلال مسيرتها الممتدَّة لِعِدَّةِ سنوات، لم تغلق الباب على نفسها، وأتاحت لنفسها مساحة كافية للمناورة، وأجادت اللُّعبة السِّياسيَّة بجدارة في عدم الانحياز لأيٍّ من الأطراف، مع الحفاظ على ثوابتها السِّياسيّة، والتمسُّك بمشروعها الإستراتيجيّ “الأُمَّة الدّيمقراطيَّة” كنهج سياسيٍّ لها، إلا أنَّها في الوقت الرّاهن، وخاصَّةً في المرحلة المفصليَّة التي تَمُرُّ بها المنطقة، بحاجة إلى حليفٍ قويٍّ تعتمد عليه في تحييد العِداء التُّركيّ لها، وهو حَقٌّ شرعيٌّ لطالما أنَّ الهجمات والتَّهديدات التُّركيّة عليها لم تتوقَّف يوماً ما.

التَّحالف الدّوليّ لمكافحة الإرهاب، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ورغم انحيازها لتركيّا، إلا أنّها في ذات الوقت تمكَّنت من لجم تركيّا في شَنِّ المزيد من العمليّات العدوانيَّة ضُدَّ مناطق الإدارة الذّاتيَّة، وهذه حقيقة يعرفها القاصي والدّاني، ولكن يجب ألا يغيب عن البال أنَّ الولايات المتّحدة والدّول الغربيّة تعمل وفق مقولة تشرتشل التّاريخيّة “ليس لنا أعداء دائمين، وليس لنا أصدقاء دائمين، بل لنا مصالح دائمة”، وهذه هي العقيدة التي تتحرَّك وتعمل وفقها الولايات المتّحدة، وتعقد وتنسج تحالفاتها على أساسها. وفي المدى المنظور يتبيَّن أنَّ هناك تقاطع للمصالح بين الإدارة وهذا الحلف، ما يرجِّح استمراره في المستقبل القريب أيضاً.

فيما التَّعويل على محور “الممانعة” وروسيّا، الذي تتداعى أركانه كُلَّ يوم أمام ضربات إسرائيل ومن ورائه الدّول الغربيّة، يغدو كالسَّير وراء السَّراب. فلا تزال روسيّا وإيران تُنسِّقان العمل مع تركيّا في تقويض الإدارة الذّاتيَّة، فهي التي منحتها الضوء الأخضر لاحتلال كُلٍّ من عفرين، سري كانيه وكري سبي، ولم تُقدِّم روسيّا أيّ مبادرة أو تبذل جهداً حقيقيّاً لإطلاق حوار جَدّيٍّ بين الإدارة ودمشق، بل سعت إلى تأجيج الخلافات بينهما. فيما إيران تورَّطت في دعم ميليشيّاتها لشَنِّ الهجمات على مناطق الإدارة، بدافع توسيع جغرافيَّة نفوذها وإطلاق يد ميليشيّاتها، كُلُّ ذلك بهدف السَّيطرة على ثروات المنطقة وفرض “التَشيُّعِ” فيها.

كما أنَّ إيران ومعها جميع القوى التَّابعة لها تَمُرُّ بمرحلة انحسار، ويبدو من خلال هول المعارك الجارية في لبنان، والقصف المستمرّ على الحوثيّين في اليمن، أنَّ المشروع الإيرانيّ في المنطقة ككُلّ يعيش مرحلة الاحتضار، وهذه الحقيقة يدركها القادة الإيرانيّين قبل غيرهم، ولذلك أيُّ رهان على هذا المحور يغدو رهاناً على حصان خاسر لا محال، في ظِلِّ موازين القوى العسكريّة والسِّياسيّة الرّاهنة في المنطقة.

يتحدَّد خيار الإدارة الذّاتيَّة بالدَّرجة الأولى على ضوء الوقوف معها في رَدِّ الاعتداءات التُّركيّة عن مناطقها، وانشغال جميع القوى بالحرب الدّائرة في لبنان، لن يُنسيها عن الخطر الدّاهم على المنطقة القادم من الشَّمال، أي من تركيّا. فإن كانت إيران تمثِّلُ خطراً على المنطقة، حسب العديد من القوى الإقليميَّة والغربيَّة، من خلال نشرها فكرة “التشيع” وتشكيل محور تابع لها تنفِّذ مصالحها، فإنَّ تركيّا أيضاً عملت على استقطاب كُلِّ القوى “السُنّيَّة” في المنطقة، وخاصَّةً حركة “الإخوان المسلمين” وإشعال الحرائق في كُلِّ دولة. والنّفوذ التُّركيّ في المنطقة يفوق الإيرانيّ خطورة، ولا يمكن أن تستقرَّ منطقة الشَّرق الأوسط دون لجم تركيّا وإعادتها إلى الوضع الذي كانت عليها قبل عام 2011. وتصريحات المسؤولين الأتراك، وخصوصاً أردوغان خلال الفترة الأخيرة، تَنُمُّ عن انكماش تركيّ وقلق بشأن مصير بلاده، خاصَّةً عندما قال إنَّ الحرب ستمتدُّ إلى تركيّا. وعلى ضوء هذه المقاربة البراغماتية التُّركيّة؛ زار زعيم حزب الحركة القوميَّة الفاشيّ “دولت بهجلي” مَقرَّ حزب الدّيمقراطيَّة والمساواة (DEM)، وقال إنَّهم أخوة، ويجب عليهم جميعاً حماية تركيّا.

التغييرات والأحداث في المنطقة تسير أسرع ممّا هو متوقَّع، وعلى الإدارة الذّاتيَّة أن تتدارك أيَّ تأخيرٍ أو تَسرُّعٍ في اتّخاذ قرارها الإستراتيجيّ والنِّهائيّ، وعليها أن تُعِدَّ ترتيبات معيَّنة لتخفيف وطأة الحرب على مناطقها، ولا يكفي أن تستقبل النّازحين القادمين من لبنان في مناطقها، بل مطلوب منها أن تبادر إلى اتّخاذ مواقف سياسيَّة تحدد فيها رؤيتها للأحداث الجارية في المنطقة.

آداربرس/جميل رشيد

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى