رؤية نقـ ـدية لموقف القـ ـوى اليسـ ـارية من حـ ـرب غـ ـزة ولبنان
في الذكرى الأولى لـ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وفي الوقت الذي تدمرت به إلى حد الانسحاق، البنية التحتية والمقومات الاجتماعية لبيئة غزة ولما يقرب من ثلث لبنان، وفي الوقت الذي أفلحت فيه الحرب الإسرائيلية بالقضاء على معظم قيادات وهياكل الإدارة والسيطرة، والتي كان آخرها قتل الأمين العام لحزب الله “حسن نصرالله”، ومشروع خليفته “هاشم صفي الدين” وقيادات وكوادر أخرى أساسية في كلا الجسمين المقاومين، حماس وحزب الله؛ خرج من يردد من النخب السياسية مع خالد مشعل ومع المرشد في طهران، إن هزيمة استراتيجية قد أصابت إسرائيل، وقد عادت سبعين عاماً إلى الوراء، كما يزعم مشعل، وأن خسائر جبهة الممانعة والمقاومة لا تتعدى أن تكون خسائر تكتيكية، وأن القادم من الأيام سيحمل مفاجآت ليست على البال، وتكرار نغمة عش العنكبوت وما شابه.
أن يردد الإسلامويون في كل من طهران وقطر وإسطنبول، وفي غير مكان من العالم العربي والإسلامي كلاماً من هذا القبيل فـ للحق يُعَدُّ كلاماً متوقعاً ومفهوماً لسببين، الأول، أنهم يُدرِكون أن المعركة التي يخوضونها هي معركة حاسمة، ولا خيار فيها لنصف انتصار أو نصف هزيمة؛ لأنهم قد تيقنوا أن الطرف الآخر في إسرائيل قد صممها على أن تكون معركته الأخيرة، معركة وجود أو فناء.
والثاني، إيمان فلاسفة هذا التيار ومهندسي خططه وبرامجه، إن طيور أبابيل ستنبعث من أقفاصها في القرن الهجري الأول لتنطلق إلى حدود لبنان وغزة، وأن رجماً حتمياً لرأس إسرائيل لا بد أنه في الطريق إلى الحدوث.
لكن الغريب في الأمر أن يردد مثقفون محسوبون على تيارات يسارية وأخرى ماركسية وقوموية تدعي العلمانية كلاماً يتقاطع في مناحي كثيرة، مع رؤية حماس وحزب الله ومحور إيران التي تدعي الممانعة. والغرابة لا تنبع من أن هذا التقييم لا يتفق مع المنطق، ويخالف الوقائع الحاصلة على الأرض، بل لأن رؤية اليساريين، وبخاصة الماركسيين منهم وموقفهم من هذه الحروب والصراعات المندلعة في غزة ولبنان؛ يحكمها لبس شديد، وتعتمد على مقاربات انتقائية تعوزها المراجعة، وإعادة النظر في كثير من الأحيان.
وباستدعاء تطورات العقود الثلاثة الماضية، وعبر مراقبة الانعطافات التي أصابت حركة النضال الفلسطيني واللبناني في مواجهة إسرائيل؛ فثمة أسئلة هامة تدور في ذهن المراقب، وتلح في بحثها عن إجابات مقنعة وهي في ذمة تيارات اليسار الماركسية المتباكية اليوم على مصير حماس وحزب الله، والتي في طليعتها؛ ألم تحقق حركة النضال الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير، وبزعامة ياسر عرفات ورفاقه، والمنبثقة عن تيارات وطنية وديمقراطية ثورية علمانية في الغالب نجاحات ومكاسب تفوق بكثير ما تنطح لتحقيقه تيار الإسلام السياسي بقيادة حماس والجهاد وغيرهما؟ حيث نجح بإنتاج وتطوير انتفاضة وطنية شاملة أتقنت لغة عصرها، واستخدمت الحجارة فاكتسبت احترام الرأي العام العالمي، وتعاطف الدول، كما انتزعت مقعداً مراقباً في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
والمسألة نفسها في لبنان، ألم يعلن الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي يومها عن انطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية في 15 أيلول من العام 1982، والتي قدم في سياقها خيرة كوادره، وأرسى في أتونها طريق العمليات الانتحارية في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي، وقدم الشهيدة الانتحارية لولا عبود وتلتها سناء محيدلي من الحزب القومي السوري، وآخرون من حركات وأحزاب عديدة في إطار المقاومة الوطنية الشاملة التي انخرط فيها كل مكونات الشعب اللبناني، ليبقى السؤال نفسه. ما هو المبرر للقفز فوق الحركة الوطنية المتدفقة بنجاح ضد إسرائيل؟ وما هي الحاجة التاريخية من تغيير اسم الحركة من المقاومة الوطنية اللبنانية إلى مسمى المقاومة الإسلامية؟ والتي هي في الواقع شيعية فقط.
وعلى نفس النهج الذي اتُّبِعَ في غزة، أليس من الحكمة أن تراجع أو تتبصر التيارات الماركسية والديمقراطية الوطنية اليوم عن صاحب المصلحة في تصفية الرموز الفكرية في حركة النضال اللبنانية أمثال حسين مروة، صاحب المؤلف الشهير (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية)، والرموز السياسية والنضالية على نحو جورج حاوي وسمير القصير وغسان تويني والحسن والحريري وغيرهم الكثير.
تلك الرموز التي ألقيت مسؤولية تصفيتهم وتغييبهم من المشهد على شماعة إسرائيل، لكن كان حرياً بحزب الله، ومن باب الحرص على مصلحة لبنان الوطنية أن يكشف عن الضالعين بقتلهم، وهو الذي طالما تباهى بامتلاكه المقدرات والكفاءات اللازمة لدحر ومواجهة إسرائيل.
وعلى ضوء كل ذلك، ومع الأخذ بعين الاعتبار إن الماركسيين المتعاطفين مع جهود حماس وحزب الله ينطلقون في موقفهم من مُسَلَّمةِ إن الخطر الصهيوني هو التحدي الأساسي، وهو الحلقة الأساسية التي على ضوء الموقف منها تتحدد المواقف، وتُرْتَسَمُ الأولويات والتحالفات. بمعنى إن حركة التحرر العربية تواجه بالدرجة الأولى تحدياً وطنياً يتركز حول مواجهة الخطر الإسرائيلي، وليس تحدياً اجتماعياً يتركز على أولوية العدالة الاجتماعية وقضايا الديمقراطية ودولة القانون. ورغم أن للماركسية تفسيراً آخر ونظرة مختلفة للمسألة الوطنية، حين تؤكد المقولة الشهيرة “إن البروليتاريا لا وطن لها في ظل الأنظمة الرأسمالية”، ليس لأنها ليست وطنية بل لأن الرأسمالية قد سلبتها أوطانها، فما بالك في ظل أو تحت نفوذ الأنظمة الشمولية الاستبدادية، مُنتِجة الفساد والكبتاغون وحاميته.
الأمثلة في المنطقة واضحة، وتتلطى خلف مسمى محور المقاومة، وإلى ذلك يمكن القول، وبصرف النظر عن هذا التناقض الذي يجد الماركسيون أنفسهم فيه، يناضلون في جبهة قوى معادية للديمقراطية ومحابية للظلم والفساد ولقضايا الحريات وبخاصة حرية المرأة، كالنظام الإيراني وأذرعه. فثمة سؤال كبير في عهدتهم، إذا سلمنا أن الأولوية اليوم أمام قوى التحرر هي أولوية وطنية، وأن من واجب هذه الأحزاب الدفاع عن القضايا القومية؛ أليست تركيا وإيران دولاً تحتل مساحات من الأرض العربية تفوق بكثير ما تحتله إسرائيل؟، وهل لواء الاسكندرون وسري كانيه وعفرين وكري سبي/ تل أبيض والمناطق الشمالية لإقليم كردستان وعربستان والجزر الإماراتية؛ إراضٍ صارت في المرتبة العاشرة في سلم اهتمامات الغيارى على المصالح القومية؟
كمال حسين/ آداربرس
ADARPRESS #