مقالات رأي

الكُرد وتركيّا وإعـ ـصارُ التحوّلات في الشَّرق الأوسط

اعتاد رئيس دولة الاحتلال التركي، أردوغان أن يُتحِفَ العالم باستداراته المفاجئة وغير المعقولة، والانقلاب على كُلِّ ما كان يعتبره من “المُسلَّمات” وأنَّه لا يتزحزح عنها قيد أُنملة، ولتصبح تلك “المُسلَّمات” خلال لحظة جزءاً من الماضي المَنسيّ، وليغدو لديه عدوَّ الأمس حليفاً وصديق اليوم، وصديق الأمس عدوّاً.

مخاوف أردوغان من احتلال إسرائيل لدمشق، وتكهُّناته بامتدادها لتصل إلى حدود بلاده، وتُهدِّدَ ما سمّاها “وحدة الأناضول”، وكذلك دفاعه المُستميت عن الحكومة السُّوريَّة ضُدَّ تجديد الولايات المتّحدة العقوبات عليها، إنَّما مبعثها عوامل عديدة، وهي بكُلِّ الأحوال ليست نزيهة وشريفة، إنَّما تُشبه إلى حَدٍّ ما ذرف التَّماسيح الدُّموعَ على ضحاياها.

الحرب الدّائرة رحاها في غزَّةَ ولبنان، أفرزت معها وقائع سياسيّة وعسكريّة جديدة في المنطقة والعالم، لعلَّ أبرزها أنَّ إسرائيل المشفوعة بالدَّعمِ الغربيّ المفتوح، انبرت تُنفِّذُ مخطّطات الغرب في إعادة رسم الخرائط الجيوسياسيّة في المنطقة، أساسها فرض مشاريع – ولو بالقوَّة – مرور الطّاقة وفتح الطرق أمام التِّجارة العالميَّة عبر دول الخليج ووصولها إلى إسرائيل، ومن ثُمَّ تدفُّق الطاقة (النَّفط والغاز) إلى أوروبا والعالم أجمع. تركيّا التي وجدت نفسها مغبونة من جميع تلك المشاريع، نظراً للازدواجيَّة التي مارستها خلال العقد الماضي بين كُلٍّ من حلفائها التقليديّين الغربيّين وروسيّا والصّين، بدأت تُفتِّشُ عن موقعٍ لها ضمن التَّفاهمات والمشاريع الجديدة، ولم تَعُد سياسة المناورة تنفعها في نيل قبول الدّول الغربيّة لإشراكها في تلك المُخطَّطات والمشاريع الإستراتيجيَّة، فيما أحلامها بتحقيق مشروعها “طريق التَّنمية” هو الآخر يواجه صعوبات كبيرة ويسير نحو الفشل، في ظِلِّ إحجام دول خليجيَّة عديدة عن المشاركة فيه.

التَّصريحات الصادرة عن الرَّئيس التُّركيّ بأنَّ إسرائيل وبمجرَّدِ احتلالها لـ”دمشق” ستصل إلى الحدود التُّركيّة وتُهدِّدُ وحدة بلاده، إنَّما مبعثها قلقه من رياح التغيير العاتية التي تَهُبُّ على المنطقة، ويقينه أنَّه سيفقد أهَمَّ ورقة وأداة بيده، كان يستخدمها ويُهدِّد بها خصومه وأعداءه، ألا وهي ورقة “الإخوان المسلمين”. فمثلما يَتُمُّ استهداف الحركات الإسلامية الرّاديكاليَّة “الشّيعيَّة”، مثل “حزب الله” و”الحوثيّين”، كذلك الأمر بالنِّسبة للحركات الإسلاميَّة “السُنّيَّة” أيضاً، التي طالما احتضنها ودعمها أردوغان، فالطرفان “الشّيعة” و”السُنَّة” ومن ورائهما كُلٌّ من إيران وتركيّا تعرقلان مشروع الشَّرق الأوسط الجديد، وكلاهما في مرمى الدّول الغربيَّة وإسرائيل، وهذا هو سُرُّ تراجع إيران عن سياساتها السّابقة والتَّضحية بحزب الله، وكذلك ستفعل تركيّا، وبغمضة عين، إن وصل الخطر إلى أسوارها.

تحويل ممرّات خطوط نقل الطاقة وطرق التّجارة العالميَّة، وتغيير مساراتها لتصبح خارج الجغرافية التُّركيّة، أفقد تركيّا أهميَّتها الجيوإستراتيجيَّة، التي طالما ابتزَّت بها الدّول الغربيّة، وهدَّدت بها دول أخرى طيلة تاريخها. نحيب وعويل أردوغان مصدره عدم إيلاء الغرب لأهميَّة تركيّا مثلما كانت في السّابق على عهد الاتّحاد السّوفياتي، ومن غير المُستبعد أن ينقل حلف النّاتو قواعده العسكريَّة من الأراضي التُّركيّة إلى منطقة أخرى في الشَّرق الأوسط أو أوروبا.

مغازلتها لروسيّا والصين، لن تشفع لها ولن تنقذها من مصيرها الأسود المجهول الذي ينتظرها، وأردوغان من خلال سياساته الرَّعناء وضع بلاده ونفسه في وضع صعب لا يُحسَد عليه، انعكست عبر زيادة النَّقمة الشَّعبيَّة ضُدَّ نظامه الذي بدأ يفقد قوَّته وبريقه تدريجيَّاً، تمثَّل بشكل واضح في نتائج الانتخابات المحلّيَّة التي أجريت في مارس/ آذار الماضي.

بدأ أردوغان وحليفه في السُّلطة دولت باهجلي، بتفقُّد رأسيهما، بعدما استدركا أنَّ رياح التغيير ستهُبُّ على تركيّا عاجلاً أم آجلاً، وشَرَّعا بتبديل لهجة ونَبرة خطاباتهما التي تراوحت بين التَّحذير من “المخاطر على مصير البلاد” وبين التوسُّلِ والرَّجاء من القوى السِّياسيّة واستعطافهما.

غير أنَّ الكُلُّ في تركيّا وخارجها يُدرك أنَّ مفتاح حَلِّ الأزمات السِّياسيّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة وتحصين أسوارها ضُدَّ أيّ تهديدات ومتغيّرات؛ يبدأ من حَلِّ القضيَّة الكُرديَّة وينتهي عندها، وهذه المسألة التقطها أردوغان وباهجلي، وعملا استدارة نصف دائريَّة في مواقفهما تجاه الشَّعب الكُرديّ وقضيَّته، عبر التودُّد إلى ممثّليهم من حزب المساواة والدّيمقراطيَّة (DEM)، حيث زار الأخير مقرَّ الحزب وقال لرئيسه المشترك تونجر باكرهان “يجب أن نتشارك جميعاً في حماية تركيّا”. ومعروف عن باهجلي أنَّه اليمينيّ الفاشيّ، وهو من أشَدِّ المعادين للكُرد وحقوقهم في تركيّا وخارجها، فالسُرُّ وراء إبدائه مقاربة ملتبسة من الكُرد تكمن في قوَّةِ الكُرد أوَّلاً، وثانياً أنَّه فقد كُلَّ حلفائه، وثالثاً، أنَّه يحاول مَرَّةً أخرى كأجداده الأتراك خداع الكُرد عبر إبراز وجه مرن بادّعاء قبوله الكُرد، رغم أنَّه لا يقبل منح الكُرد حتّى حقوق المُختاريَّة.

تتالت العروض المغرية من جانب نظام أردوغان، رغم قناعة الكُلَّ أنَّ لا شيءَ يمكن البتّ به في تركيّا دون موافقته، تجلَّت في السَّماح بترديد بعض الشِّعارات من قبيل “يحيا القائد آبو/ Bijî Serok APO” وترديد نشيد حزب العُمّال الكُردستانيّ “Çerxa Şoreşê” وأخيراً “حزب العُمّال الكُردستانيّ هو الشَّعب، والشَّعب هنا”، وأُعلن عنه عبر قرار صدر عن المحكمة العليا ادَّعت فيه أنَّ من يردِّد هذه الشِّعارات إنَّما “يُعبِّرُ فيها عن نفسه”، ضمن ما يمكن القول إنَّه “حُرّيَّة التَّعبير”، رغم معرفة الجميع أنَّ لا حُرّيَّة للتَّعبير في ظِلِّ حكم نظام أردوغان الثيوقراطي المُتلبِّسِ بالعلمانيَّة الجمهوريَّة.

تُرجمت هذه الشِّعارات في المظاهرة الضخمة التي نُظِّمَت في مدينة آمد عاصمة كُردستان التّاريخيَّة، إلا أنَّ الشُّرطة والأمن التُّركيّ اعتقلوا عدداً من المتظاهرين، لكن ارتفعت أصوات حناجر المتظاهرين بتلك الشِّعارات وهي تصدح لأوَّل مًرَّةِ في ساحات آمد وتتجاوز أسوارها.

أعقب هذه التحوّلات العميقة في تركيّا أنباء عن محادثة جرت بين قائد الشَّعب الكُرديّ عبد الله أوجلان من جزيرة إيمرالي مع قيادة حزب العُمّال الكُردستانيّ في جبال قنديل، وهو ما لم تؤكِّدُهُ جهات رسميَّة تركيّة أو مصادر من جانب حزب العُمّال أيضاً.

هل ينوي أردوغان وحليفه العودة إلى مرحلة السَّلام، وبدء التَّفاوض حول حَلِّ القضيَّة الكُرديَّة، أم أنَّها أيضاً لا تغدو كونها أكثر من مناورة سياسيّة غرضها نيل تأييد الكُرد، وتقديم شخصيّات تابعة له على أنَّهم يُمثِّلون الكُرد، على غرار ما جرى في لوزان، أم أنَها نتيجة فشل حملات الإبادة التي سيَّرها أردوغان ونظامه ضُدَّ الشَّعب الكُرديّ في كُلٍّ من باكور، روجآفا وباشور كردستان، حيث لم يتمكَّن من إطفاء جذوة المقاومة على غرار ما فعلت إسرائيل بحركتي “حماس” و”حزب الله” في كُلٍّ من فلسطين ولبنان؟

جدّيَّة أردوغان ونظامه أمام مُفتَرَقٍ تاريخيٍّ، ولا خيار ثالث أمامه، فإمّا أن يَمُدَّ يده لبناء السَّلام مع تركيّا ويبدأ خطوات عمليَّة لحَلِّ القضيَّة الكُرديَّة، عبر الحوار والتَّفاوض مع القائد أوجلان وحركة حزب العُمّال الكُردستانيّ، لأنَّه الوحيد الذي يمتلك مفاتيح الحَلّ، وبيده كُلّ أوراق القوَّة التَّفاوضيَّة، وهذا ما سَيُمَكِّن تركيّا من الصمود أمام الموجة العاتية من التغييرات التي تضرب المنطقة. وقبل هذا وذاك، يتوجب عليه سحب قوّاته من أراضي روجآفا وباشور كُردستان، والإعلان فوراً عن وقف لإطلاق النّار، لزرع الثِّقة بين الطرفين، وإطلاق سراح المعتقلين السِّياسيّين من معتقلاته وسجونه، وكُلُّ كلام خارج هذه السرديَّة يغدو هراءً ومحاولة للالتفاف حول المكتسبات التي حقَّقها الكُرد في ظِلِّ التحوّلات التّاريخيَّة الجارية في المنطقة.

لا يمكن الوثوق بشكل مطلق بالوعود التُّركيّة، أو الرُّكون إلى التَّصريحات الإعلاميَّة والكلام المعسول، لقد وصل الكُرد إلى مرحلة باتوا فيها لا يثقون بأيّ شيء، ويُشكّكون بكُلّ شيء إن لم يروا بأعينهم خطوات ملموسة على أرض الواقع، ومَرَدُّ ذلك حالات الغدر والخيانة الكثيرة التي تعرَّضوا لها على مدى تاريخهم الطويل.

مصداقيَّة أردوغان على المِحَكِّ، وهو بكُلِّ الأحوال يمتلك القوّة الكافية لاتّخاذ قرارات جريئة تقطع الطريق على حملات الإبادة والإنكار، وتُدشِّن مرحلة جديدة عنوانها الرَّئيس “حَلُّ القضيَّة الكُرديَّة بشكل عادل، مقابل السَّلام لتركيّا، وكَفِّ يده عن التدخُّل في الأجزاء الأخرى من كُردستان”.

لا شَكَّ أنَّ الكُرد، وخاصَّةً في روجآفاي كردستان، قد قطعوا شوطاً طويلاً في النِّضال من أجل حقوقهم المشروعة، والمجتمع الدّوليّ بات الآن لديه قابليَّة أقوى للاعتراف بتلك الحقوق، ويبدو أنَّ هذه المخاوف تُحرِّكُ أردوغان لإبداء مقاربات مغايرة عمّا في السّابق من الكُرد وحركتهم التحرُّريَّة، فالتحوّلات في المنطقة تتجاوز الأنظمة الدّيكتاتوريَّة المُستبِدَّة ذات الحكم المُطلق، ولا سبيل أمام أردوغان إلا النُّزول من الشَّجرة والقبول بإرادة الشَّعب الكُرديّ، وفي جميع الأجزاء، وعدم التدخُّل في شؤونها، ولكن هل ذهنيَّة أردوغان القادم من الأوساط الدّينيَّة المُتطرِّفة، وكذلك ذهنيَّة شريكه باهجلي القومويّ المُتمسّك بالقوميَّة التُّركيّة فقط، ستسمح بإجراء تلك التغييرات؟

الأيّام والأشهر القادمة من العام الجاري ستكون مصيريَّة وحاسمة وحافلة بالمفاجآت، ومن لا ينضَمّ إلى المشاركة في البنيان الذي يُعمل على تشييده في المنطقة، بالتَّأكيد ستجرفه الأمواج والرّياح للإعصار الضارب لكُلَّ جغرافيَّة الشَّرق الأوسط.

.جميل رشيد/آداربرس

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى