القَـ.ـضيَّةُ الكُرديَّةُ وتجاوز فـ.ـصل المسارات
جميل رشيد
يَتساءلُ العديد من المراقبين للشأن الكُرديّ والتُّركيّ عن التَّهافت التُّركيّ على فتح قنوات تواصل مع القادة والزُّعماء الكُرد في شمال كُردستان، وبالذّات مع القائد الكُرديّ الأسير “عبد الله أوجلان” والزَّعيم “صلاح الدين دميرتاش”، بالتَّزامن مع استمرار الأخيرة في حربها ضُدَّ الوجود الكُرديّ ورفضه مطلقاً، إن كان في باكور أو باشور أو روجآفا. والتَّواصل مع القادة الكُرد بهذا الشَّكل المندفع، تعتبر سابقة لم يعهدها تاريخ الصراع الكُرديّ – التُّركيّ، على الأقلّ بعد الثَّورة التي أطلقها حزب العُمّال الكُردستانيّ في أغسطس/ آب عام 1984. هل حقّاً انتقلت تركيّا بنظامها الحاكم ونخبها الثّقافيَّة والسِّياسيَّة إلى الضفَّة الأخرى، وبدأت تقود جبهة “السَّلام”، وفق ادّعاء وتوصيف القياديّ في المجلس الوطنيّ الكُرديّ وعضو ما يسمى الائتلاف “عبد الحكيم بشّار”، وشرعت في إبداء مقاربات إيجابيَّة من القضيَّة الكُرديّة وحَلِّها، أم أنَّها مناورة لتقويض المكتسبات التي حقَّقها الكُرد خلال تاريخ نضالهم الحديث، على الأقلّ بعد ثورات ربيع الشعوب “الرَّبيع العربيّ”، وخصوصاً في روجآفا؟
بداية ما أدَّعته وسائل الإعلام التُّركيّة حول إجراء القائد “أوجلان” محادثة هاتفيَّة مع قيادة حزب العُمّال الكُردستانيّ في قنديل، فنَّدتها قيادة حزب العُمّال جملة وتفصيلاً. على العكس من ذلك؛ وضع القائد “مراد قره يلان” وكذلك “مصطفى قره صو” ثلاثة شروط أساسيَّة أمام أيّ حوار مع الدّولة التُّركيّة، أوَّلها وقف حربه الوحشيَّة ضُدَّ الشَّعب الكُرديّ في جميع أجزاء كُردستان، والشَّرط الثّاني رفع العزلة المفروضة على القائد “أوجلان” ونقله من معتقله في جزيرة إيمرالي، وتوفير شروط مناسبة له ليتمكَّن من قيادة المرحلة والإشراف على الحوار، وذلك قبل مطالبة الحركة بالحديث عن أيّ وقف لإطلاق النّار، وإجراء تغييرات في رؤية الحركة. والشَّرط الثّالث وجود ضمانات دوليَّة لإنجاح الحوار والتزام الدّولة التُّركيّة بنتائجه، كي لا تعود وتنقلب عليها مَرَّةً أخرى، وتتنصَّل من كُلِّ العهود والمواثيق كما فعلت في عام 2015، وقد اعتادت الدّولة التُّركيَّة منذ نشوئها على ذلك.
ما روَّجت له بعض وسائل الإعلام حول غضب القائد “أوجلان” من قيادة قنديل عندما طالبت بتوفير ضمانات دوليَّة لإنجاح أيّ حوار مع الدّولة التُّركيّة، ما هي إلا أكذوبة سوَّقت لها الاستخبارات التُّركيّة عبر وسائل إعلامها، لأنَّه بالأساس لم تُجرَ أيُّة مكالمة حتّى يصل النِّقاش إلى ذاك الحدّ. وما قاله رئيس حزب الحركة القوميَّة الفاشي “دولت باهجلي” بضرورة تخلّي حزب العُمّال الكُردستانيّ عن السِّلاح، ومطالبته القائد أوجلان بحَلِّ الحزب، يتقاطع مع الدِّعاية المُضلِّلة لأجهزة استخبارات دولته، إذ هو يحاول دَقَّ إسفين بين قيادة الحركة والقائد “أوجلان”، رغم أنَّها دعاية رخيصة ومُبتَذَلة لم تنطلي على قيادة الحركة والقائد “أوجلان”.
القضيَّة الأخرى الأكثر أهميَّة؛ هي محاولة الدّولة التُّركيّة فصل مسار باكور، باشور وروجآفا، رغم تلازم المسارات من حيث الهدف والنَّتيجة، فالدّولة التُّركيّة من خلال احتلالها لأجزاء من روجآفا مثل عفرين، سري كانيه وكري سبي، وكذلك مناطق عديدة في باشور كُردستان؛ جعلت من نفسها العدوَّ الأوحد والأوَّل للشَّعب الكُرديّ في جميع أجزاء كُردستان، وبالتّالي أيُّ حل لقضيَّتهم يقتضي بالضرورة حلّاً شاملاً، إن كانت فعلاً ترتئي الأمن والاستقرار، وفي نيَّتها حَلَّ القضيَّة الكُرديّة وفق المواثيق والعهود الدّوليَّة، وأيُّ حَلٍّ خارج هذه الرؤية والتوجّه؛ يغدو مبتوراً ولن يرى النّور أصلاً، ولا يُعَدُّ أكثر من مناورة من أردوغان وحليفه باهجلي لإنقاذ نظامهما المتداعي من السّقوط.
السؤال الآخر الذي يطرح نفسه في هذا المجال؛ هل للولايات المتّحدة يَدٌ في ممارسة الضغوط على أردوغان وحليفه لإطلاق عملية السَّلام، والوصول إلى حَلٍّ يُرضي الكُرد، ويحافظ على تركيّا الدّولة العضو في حلف الناتو؟ بالتَّأكيد لا تتوفر معلومات دقيقة حول دور أمريكي لدفع تركيّا نحو القبول بالحوار مع حركة التحرُّر الوطنيَّة الكُردستانيّة، إلا أنَّه في ذات الوقت لا يمكن استبعاد ذاك الدَّور أيضاً، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التطوّرات المتسارعة التي تجري في المنطقة، والدَّور الأمريكيّ والإسرائيليّ في تفكيك جميع الحركات والمٌنظَّمات والدّول المناهضة لمشروعها في المنطقة، مشروع الشَّرق الأوسط الجديد. إلا أنَّ الثابت أنَّ أردوغان لم يكن ليشرع في الإعلان، ولو عبر الإعلام، عن إجراء تغييرات في موقفه من القضيَّة الكُرديّة لو لم يتعرَّض لضغوط خارجيَّة، وخاصَّةً من الولايات المتّحدة وفرنسا، إضافة إلى الضغط الدّاخليّ الذي تشكَّل من استنزاف الموارد الماليَّة والبشريَّة بفعل حربه ضُدَّ الشَّعب الكُرديّ في جميع أجزاء كُردستان.
أردوغان يدرك تماماً أنَّ القضيَّة الكُرديّة قد وُضِعَتْ على سِكَّةِ الحَلِّ، ودخل الكُرد المعادلة الدّوليَّة، ومن أوسع أبوابها، خاصَّةً في روجآفاي كُردستان، من خلال العمل لمُدَّةِ أكثر من عشر سنوات مع التَّحالف الدّوليّ لمحاربة الإرهاب، وأثبتوا أنَّهم القوَّة الأكفأ على التَّعامل بمرونة مع الدّول الفاعلة في المنطقة. هذه هي القشَّةُ التي قصمت ظهر أردوغان، لطالما سعى إلى خنق كُردِ روجآفا والإدارة الذّاتيَّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة. لقد عمل الكُرد بهدوء مع جميع الأطراف، وتمكَّنوا من كسب تأييدهم لقضيَّتهم، حتّى باتوا رقماً هامّاً في معادلات الحَلِّ في سوريّا والمنطقة عموماً. ومحاولات أردوغان العبثيَّة ربط الإدارة الذّاتيَّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة بحزب العُمّال الكُردستانيّ لم تنفعه، وأيُّ حَلٍّ مرتقب في المدى المنظور، سيجعل من الإدارة الذّاتيَّة واقعاً مفروضاً على تركيّا قبل غيرها، وتالياً هي مضطرَّة للتَّعامل معها بندّيَّة، وتغيير مواقفها العدائيّة تجاهها، وإلا ستدفع أثماناً باهظة لعدائها، بعد أن استنفدت جميع سُبُلِها في تقويض الإدارة، بدءاً من الاحتلال وشَنِّ جميع أشكال الهجمات عليها، إلا أنَّ الإدارة صمدت وأثبتت أنَّها تملك “صبراً إستراتيجيّاً” ورَدَّت على العِداء بأدوات سياسيَّة أكثر من العسكريَّة، لأنَّ ما تفعله السِّياسة قد لا تفعله العسكرة والسِّلاح.
فيما زيارة الرِّئاسة المشتركة لحزب الديمقراطيَّة والمساواة (DEM) للرَّئيس المشترك السّابق لحزب الشُّعوب الدّيمقراطيَّة “صلاح الدّين دميرتاش” في معتقل “أدرنه”، والنِّقاش معه مُدَّة أربع ساعات متواصلة، لها دلالاتها السِّياسيَّة الكبيرة، لجهة قيادة (DEM) للجهود السِّياسيَّة في المرحلة الرّاهنة، لفتح الأبواب الموصدة أمام استئناف الحوار بين حركة التحرُّر الوطنيَّة الكُردستانيّة والنِّظام التُّركيّ، ومن حيث توقَّف في عام 2015، بعد أن أنهى أردوغان تلك المرحلة عبر إطلاق حملة عسكريَّة تسبَّبت في تدمير على الأقل خمس مدن رئيسيَّة.
يبدو أنَّ أردوغان يحاول إشراك أكبر عدد ممكن من القيادات السِّياسيَّة الكُرديَّة والتُّركيَّة في إطلاق عمليَّة السلام، وفتح المجال أمام قيادة (DEM)، وكذلك رئيس الحزب الجمهوريَّ “أوزغور أوزال” لزيارة “دميرتاش”، كي يُشرك أكبر عدد من القوى في هذه العمليَّة، ويرسم مسارات جديدة، ليُحمِّلَ عبء العمليَّة ووزرها في حال فشلت على جميع القوى، ويتنصَّل من المحاسبة على الأفعال التي ارتكبها طيلة الفترة الماضية.
يتوجَّب على الكُرد في هذه المرحلة المصيريَّة التي تَمُرُّ بها قضيَّتهم والمنطقة عموماً، السَّعيَ بشتَّى الوسائل إلى تحقيق وحدتهم الوطنيَّة، وترك خلافاتهم الحزبيَّة جانباً، وهو ما دعا إليه القياديّ “مراد قره يلان” خلال حديثه مؤخَّراً. وكُلُّ الظروف ملائمة لانعقاد مؤتمر وطنيّ كُردستانيّ تنبثق عنه هيكليَّة جامعة للكُرد في جميع الأجزاء، ويمكن عبرها مخاطبة المجتمع الدّوليّ، وخصوصاً القوى الفاعلة في منطقة الشَّرق الأوسط، لحَلِّ قضيَّتهم. ويمكن أن تبدأ حوارات بدئيَّة على مستوى كُلِّ جزء، وتتوَّج بعقد مؤتمرٍ وطنيٍّ جامعٍ، لا يستثني أحداً من المشاركة، والمجتمع الدّوليّ لا يعارض عقد هكذا مؤتمر، بل كُلُّ المؤشِّرات تؤكِّدُ أنَّه سيكون داعماً له. رغم كميَّة الأحقاد الحزبيَّة بين مختلف الأطراف الكُرديّة، وفي جميع الأجزاء، إلا أنَّه يستوجب على الكُرد رؤية أعدائهم كيف يغيّرون مواقفهم خلال ليلة وضحاها، ويتركون كُلَّ خلافاتهم جانباً، ويُوحِّدونَ مواقفهم ضُدَّ الكُرد، فالأَوْلى بالكُرد العمل بكُلِّ قوَّةٍ وتفانٍ نحو لَمِّ شَمل البيت الكُرديّ الدّاخليّ، اليوم قبل الغد، فالتّاريخ لا يرحم أحداً.