قراءة في دلا لات وآفـ ـاق الحـ ـرب الدائرة في غـ ـزة ولبنان
كمال حسين
كل ما يجري اليوم يشير إلى أنها لحظة فارقة، ومحطة مفصلية في تاريخ المنطقة، وفي واقع شعوبها ودولها وحتى إلى نحو كبير في طبيعة المفاهيم والقيم التي بقيت سائدة على مدى عقود طويلة.
وفيما تتواصل الحرب الضارية التي نشبت منذ أكثر من عام في محطة غزة بين ما يسمى محور المقاومة بقيادة إيران وحلفائها وتوابعها وداعميها في فصائل الإسلام السياسي والقوى القومية وبعض فئات اليسار الماركسي؛ وما بين إسرائيل وما تمثله كرأس حربة للتحالف الغربي ممثلاً بحلف الناتو وعلى رأسه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، والذي يتقاطع إلى حدٍّ كبيرٍ مع مصالح محور الاعتدال العربي ودول الخليج ومصر، ومع انتقال شرارة الحرب إلى الحدود الشمالية لإسرائيل، ومع تقدم عمليات اجتياح لبنان بهدف كسر شوكة حزب الله اللبناني وأذرع إيران في لبنان وسوريا والعراق، وما يسمى محور المقاومة قبل أسابيع قليلة، وذلك على خلفية رفع الأخير شعار وحدة الساحات في مواجهة العدوان الإسرائيلي على مدى سنوات عديدة، والذي عدله أخيراً إلى مهام قتالية ورَّط فيها لبنان تحت مسمى حرب إسناد غزة؛ يتضح وخاصة بعد الإخفاقات الكبرى التي أصابت هذا المحور، والتي أدت إلى تصفية كارثية في غزة ليس لحماس وكوادرها القيادية فقط بل للأسف إلى تصفية الوجود الجيوسياسي للشعب العربي الفلسطيني هناك، بل أيضاً لحزب الله الذي يوشك أن يلحق بمصير غزة بعد الدمار الهائل والقتل الذي أصاب قياداته وبيئته والبنية التحتية لجغرافية جنوب لبنان، وجزء هام من العاصمة اللبنانية وبعض المدن، وأدى بدوره إلى نزوح مئات ألوف السكان من مدنهم وقراهم.
وإذا أضفنا إلى المعطيات والتفاصيل ما شهدته الساعات الأخيرة من تطورات تمثلت بنجاح إسرائيل في استباحة السيادة الإيرانية، وخروج دفعات من عشرات الطائرات المقاتلة، وعلى مدى ساعات عدة بضرب مواقع إيرانية حساسة، وفي مدن عدة من بينها العاصمة طهران، ومن ثم عودتها سالمة إلى أراضيها ودون أن تظهر أية مؤشرات لنيتها بالرد؛ يتضح جلياً أن محور المقاومة المذكور آنفاً قد بدأ يترنح، وأن هزيمة مدوية أخرى تضاف إلى هزائم القرن الماضي، توشك أن تجر شعوب العالم العربي إلى تسجيلها بسبب الحسابات الخاطئة، وضبابية الرؤية السياسية لقياداتها ونخبها.
وعلى المقلب الآخر من جبهات الإسلام السياسي المتورط بأزمات المنطقة؛ تظهر إلى السطح تصريحات الرئيس التركي الراقص أردوغان لتعبر عن قلقها البالغ من أن اجتياحاً إسرائيلياً لسوريا وللعاصمة دمشق قد صار على الأبواب، وبأن القفزة التالية ستكون نحو الأناضول، ولتدخل على نفس السياق اليقظة المباغتة لزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي عبر دعوته القائد أوجلان إلى الحديث أمام البرلمان التركي كله في مؤشر إلى أن إرهاصات عدة تفيد بأن الأرض باتت تميد من تحت أقدام أصحاب المشاريع القومجية والإسلامية الراديكالية التي تتقن الضجيج والتضليل والكذب على حساب لقمة الجماهير وفرصها بالحرية والكرامة.
هذه المشاريع التي لم تقدم للشعوب العربية غير الخيبات والهزائم والتشرد، وعلى جميع المستويات والأصعدة؛ فتحت سقفها أو بحجة مواجهة العدو الصهيوني؛ دفعت شعوب الدول العربية دماء خيرة أبنائها، وتكبدت آلام الفقر والجوع، وغياب التنمية العادلة لمصلحة طغمٍ حاكمةٍ وأحزابٍ وجماعاتٍ فوضت نفسها بالتصرف بموارد الأمة، وفي شن الحروب، وتحديد الأولويات والسياسات والاستراتيجيات والتحالفات نيابة عن أغلبية أطياف الشعب ومثقفيه ونخبه.
إلى ذلك يمكن القول إن الجماهير في المنطقة العربية، وفي منطقة الشرق الأوسط عامة، والتي شُحِّنَت طيلة العقود السبعة الماضية بفكرة الوحدة العربية، وتحرير المقدسات، وعلى أن الأولوية في المسألة لوطنية هي في مقاومة مشاريع الغرب والصهيونية؛ تتيقن اليوم أنها كانت مُضّلّلة ومأخوذة لخدمة أهداف ومشاريع قومية بائسة أو إسلامية قد رسمت في الغالب في عواصم من خارج المنطقة، بل بلغت في يقينها أن الهزيمة تحت لواء الأفكار القومية والإسلامية التي اختبرتها في تجربة الصراع العربي الإسرائيلي؛ هي هزيمة مركبة، هزيمة على المستوى الوطني، حيث في كل مرة يفشل العرب في تحرير أي شبرٍ من الأرض ويخسرون أراض جديدة، وهزيمة على المستوى الاجتماعي، حيث باتت الشعوب في الدرك الأسفل في ظروف المعيشة ومعدل الحريات والتطور.
أما وقد أصبح الوضع في المواجهة الحادثة الآن وفق كل المؤشرات والمعطيات الحاصلة؛ يشي بأن كارثة هائلة ومأساة جديدة قد صارت بحكم المحققة؛ فإن السؤال الذي صار يلح بنفسه على ذهن المثقف في منطقتنا؛ لماذا دوماً ينهزم العرب ودوماً تنتصر إسرائيل في تاريخ جميع المواجهات التي شهدها تاريخ الصراع؟ ولماذا يكرر نتنياهو أن من أهداف هذه الحرب بعد تقويض الإرهاب الاسلاموي هو تغيير خارطة الشرق الأوسط؟ فهل لأن في الأكمة ما وراءها؟! وهل لأنه قد بات متأكداً بأن الشعوب في الضفة المواجهة هي شعوب جائعة للخبز والديمقراطية؟ وهو الذي اختبر من تجربته مع عرب 48 وعرب الجولان الذين يقاتلون اليوم في صفوف جيشه.
إن لغة الشعوب تتكون من أبجدية مختلفة عنها في لغة الحكام في نظم الحكم الاستبدادية، وفي منطق حملة الأفكار القوموية والإسلاموية المتخشبة.
آدار برس
# ADARPRESS