مانشيتمقالات رأي

مؤتمر المسار الديمقراطي.. حين نواجه الأسئلة الصعبة

لا تشي كثرة التناقضات في الواقع السياسي السوري، بوفرة حلول جذرية ومرضية في آن معاً، فمهما اتسعت درجة تفاؤلنا برفع سقف إمكانية إيجاد مثل هذه الحلول، فإنها سوف تصطدم لا محالة بصخرة واقع القوى المتدخّلة في القضية السورية. والمشكلة ليست فقط بكثرة عدد اللاعبين على الأرض السورية، وإنما في تنوع هذه القوى محلياً، إقليمياً ودولياً، ولكل منها مصلحتها وحصّتها الخاصة من سوريا التي لن تتنازل عنها بسهولة.

وعندما لا تسير هذه المصالح بالتوازي، فإن حجم التعارض سيصل إلى درجة عالية من الحدّة، ستقود لا محالة إلى الانفجار في أية لحظة، فتصبح سوريا وشعبها رهينةً لتصفية حسابات تلك القوى على أراضيها، والثمن لا شك سيكون من دماء أبنائها بالدرجة الأولى.

قتامة هذا المشهد، ليس جديداً على أية حال، لكنه أصبح أكثر وضوحاً وربما أشد فاجعية من ذي قبل، لا سيما مع دخول منطقة الشرق الأوسط كلها في مختبر جديد، أدخلها فيه هجوم السابع من تشرين أول 2023 على المدنيين الإسرائيليين، وهو ما زاد من تأزّم المشهد المأزوم أصلاً وجعله أشدّ ضبابية، الأمر الذي أجّل إلى أمدٍ غير مسمّى فكرة إيجاد حل للأزمة السورية.

وسط هذه الأجواء الحامية، أصبح من البراءة السياسية أن نقول إن طرفي الصراع في سوريا محصور فقط بين النظام والمعارضة. فلا النظام يشبه نفسه الذي كان عليه قبل عام 2011، ولا المعارضة السياسية التي خرجت من عباءة النظام أول الأمر، هي نفسها الآن بعد أن تحولت إلى دمية بيد الدول الإقليمية وعلى رأسها تركيا العدالة والتنمية “الإخوانية” ومن لفّ لفها.

عندما نصل إلى مثل هذه النتيجة الموجعة من عدم قدرتنا على فك اشتباك المصالح بين قوى لديها مصالح فوق أرضنا، يصبح من الشاقّ على أيّ باحث في الملف السوري أن يفصل بين ما يحدث في هذا البلد المُنهك وبين ما يحدث في دول الجوار، حتى يكاد من المستحيل الآن، التفكير في البدء بمعالجة أي ملف داخل الحدود السورية دون الأخذ بعين الاعتبار ما ستقوله تركيا أو إيران أو إسرائيل على سبيل المثال، كون هذه الدول لها حضور واضح في كل ما يحدث داخل حدود البلد، لكن أيضاً دون أن نتجاهل قوى العصابات الإرهابية والإجرامية التي مكّنت حضورها هي الأخرى طيلة سنوات الانفلات الأمني، وصار لا بد من التعاطي معها بجدية ومهنية.

خيوط عنكبوتية ومصالح متشابكة بين أطراف مرئية وأخرى لا أحد يعرف من يحركها، كل هذا يقتضي إدراك كيفية إدارة لعبة التوازنات بدقّة عالية قبل التفكير بطرح أي مشروع لحل مستدام للأزمة السورية، خصوصاً وأنه ـ أي الحدث السوري الحالي لا ينفصل عن بقية أزمات منطقة الشرق الأوسط بالكامل.

إزاء كل هذه التعقيدات، من المؤسف القول، إن معظم القوى السياسية لم تستشعر – إلى الآن، حجم المأساة، فهي إلى الآن غير متوافقة على فكرة العمل الجماعي الجاد من أجل خلق تكتل سياسي محترم وموثوق قادر أن يعبّر عن آمال كل السوريين ويستطيع في الوقت نفسه أن يكون تكتلاً وطنياً وشريكاً متوازناً للدول المعنية بقضية بلادهم وتباعاً قضايا المنطقة ككل.

تعترف القوى والأحزاب السياسية السورية بأن بلدهم يواجه تحديات تاريخية ووجودية مفصليّة. فمؤسسات الدولة تعاني من هشاشة تقارب الانهيار، ووحدة تراب الوطن يهددها التقسيم، لا سيما في ظل الحضور الإقليمي المباشر داخل الأراضي السورية. أيضاً يتوافق السوريون، ولو بشكل ضمني، على حاجة مجتمعهم إلى صياغة عقد اجتماعي جديد يقيه حدة الانقسام بين مكوّناته التي لم تعد تخفى على أحد.

وعلى الرغم من هذه المخاوف المشروعة، لم يحدث أن اجتمع العقل الجمعي الوطني السوري تحت قبة واحدة وحول طاولة واحدة من أجل التفكير بتشكيل كتلة وطنية تعيد الحياة للسياسة السورية، أو ترسم خطوطها الأولى على الأقل. لا شك أنه جرى مثل هذه الاجتماعات من قبل بين السوريين، لكن السؤال الحارق هو ما الذي تركته من آثار خلفها على مستوى الوطن والشارع؟

من هنا، فإن مثل الدعوة لجمع السوريين على طاولة حوار واحدة، لم تعد نوعاً من الترف السياسي، بل أصبحت استحقاقاً وطنياً وتاريخياً، تزداد أهميته وتتسارع ضرورته كلما ازدادت قتامة المشهد المحلي أو الإقليمي.

من هنا، تأتي أهمية لقاء مؤتمر المسار السوري الديمقراطي الذي سينعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل على مدى يومين بتاريخ 25 و 26 تشرين الأول الجاري، علّه يكون بارقة أمل جديدة تدفع بالقوى السورية الديمقراطية والعلمانية لإجراء مثل هذا الحوار الوطني الشامل الذي يُفضي إلى تحديد مبادئ أساسية، تُشكّل أرضية صلبة يستند إليها المؤتمرون في امتلاك مواصفات عملية ورؤية واضحة واستراتيجية في العمل السياسي، علّنا نتمكن هذه المرّة، من رسم خريطة طريق تُخرِج سوريا والشعب السوري من الأزمة الخانقة التي يعيشونها منذ سنوات، وتجعل من هذا البلد عامل استقرار لشعبه والمنطقة بأكملها.

هي فرصة إذاً لرؤية الواقع السوري على حقيقته، حيث سيضعنا مؤتمر مسار الديمقراطي أمام استحقاق لا بد منه وهو الإجابة بشفافية ووضوح على الأسئلة الصعبة والدامية التي لم يعد بالإمكان القفز فوقها. فإن لم تكن غاية المشاركين في هذا المؤتمر تغليب المصلحة الوطنية العليا فلا قيمة لمشاركتهم فيه.

وإن لم تنصبّ أهدافهم على التفكير بإمكانية التأسيس لعمل وطني يحرّر البلاد من جميع المحتلين أو على الأقل التعامل معهم بعقلانية وإدراك متوازن لموازين القوى الإقليمية والدولية وبإحساس وطني عالي، فلا أهمية لهذه المشاركة.

وإن لم يكن الدافع الأقوى هو العمل على بناء دولة سورية ديمقراطية موحّدة، تحترم التنوع القومي والديني وتضمن حقوق جميع المكونات دون تمييز أو إقصاء فلا ضرورة لهذا الحضور.

لا شك أن أي عمل وطني بهذا الحجم سوف يستدعي الخلافات وسيبرز تمايزاً واسعاً بين المؤتمرين. لكن مهما بلغت صعوبة التعقيدات، عليها ألّا تتغلب على الهمّ الأساسي وهو الالتقاء على تعزيز فكرة بناء المعيار الوطني المبني على أساس سوري خالص.

ومهما ارتفعت أصوات المعترضين، يجب ألا تقوى على ضرورة التفكير بالإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن بناء سوريا كدولة حديثة بالمطلق تستند إلى مقومات أساسية في حقوق الإنسان والديمقراطية وكل ما يتعلق بمفاهيم وقيم الدولة الحديثة والتنمية واحترام جميع المكوّنات؟

المشهد قاتم لا شك، والأزمة تعمّ كامل المنطقة، لكن دون التسلّح بفكرة التأسيس لمؤتمر وطني عام تخرج عنه كتلة وطنية سورية صلبة وموثوقة وجادة، فلن يترك مؤتمر المسار الديمقراطي أي أثر على مستوى الجرح السوري الغائر. ومن دون التمسك بفكرة خلاص السوريين، لن يكون أكثر من مجرّد أخذ صور تذكارية كغيره من اللقاءات التي عايشناها طيلة السنوات الماضية.

قاسية هي طريق الجلجلة لا شك، لكن خلاص السوريين بالسير على دربها. فهل يخطّ السوريون هذا الشهر درب خلاصهم بيدهم أم أن العجز سيثني عزيمتهم عن مواجهة أسئلة هذا الواقع القاسي.

بشار عبود

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى