مانشيتمقالات رأي

في مَواقـ.ـفِ المعـ.ـارَضَـ.ـةِ السُّوريَّة من القَـ.ـضـ.ـيَّةِ الكُرديَّةِ ومستَقبَلِها

جميل رشيد

عقدت المعارضة السُّوريّة مؤتمراً في القاهرة عام 2012، شاركت فيه معظم تشكيلات المعارضة، من اليمين إلى اليسار، من القوى الدّينيَّة إلى العلمانيَّة، بما فيها حركة “الإخوان المسلمين”، كذلك كان الحضور الكُرديّ فيها لافتاً، إذ شارك حزب الاتّحاد الدّيمقراطيّ (PYD)، إلى جانب أحزاب من “المجلس الوطنيّ الكُرديّ”، منهم “الحزب الدّيمقراطيّ التقدّميّ في سوريّا” عبر رئيسها آنذاك “عبد الحميد درويش”، حيث كان حينها ضمن صفوف المجلس.

خرج المؤتمر حينها بوثيقة سياسيّة هامَّة، أطلقوا عليها اسم “وثيقة العهد الوطنيّ”، كما طرح حينها رئيس حزب الاتّحاد الدّيمقراطيّ “صالح مسلم” بأن تُدرج حقوق الشَّعب الكُرديّ وحَلُّ القضيَّة الكُرديّة في الدّستور السُّوريّ مستقبلاً كمادَّةٍ فوق دستوريَّة، غير قابلة للنِّقاش أو الجدال حولها، أو أنَّها تخضع للاستفتاء أو ما شابه ذلك. إلا أنَّ التيَّارات الشّوفينيَّة والإسلاميَّة المتطرِّفة رفضت هذا الاقتراح، ولم تأخذ به مطلقاً؛ بل أبدت مواقف متشدِّدة منه، وتمسَّكت بعض منها بعروبة الدَّولة السُّوريّة، وأغلقت الأبواب أمام أيِّ حوار حول حَلِّ القضيَّة الكُرديّة، ومعها انزلقت نحو مواقف أكثر تطرُّفاً.

إنَّ هذه المُقدِّمة تفيد في فهم مواقف المعارضة السُّوريّة، وبمعظم أشكالها وتلويناتها السِّياسيّة من قضيّة شعب مازال يعاني التَّهميش ويتعرَّض كُلَّ يوم للمجازر، رغم أنَّه يُشكِّلُ جزءاً فاعلاً في الحِراك السِّياسيّ السُّوريّ، وله وزنه الدّيمغرافيّ، إضافة إلى دوره في رسم مستقبل سوريّا.

حالة الإنكار والتعمية على حقوق الكُرد سيطرت على معظم مواقف المعارضة، فالإسلاميّون، وخاصَّةً “الإخوان المسلمون”، كفّروا الكُرد واعتبروا محاربتهم جزءاً من الواجب الدّينيّ المُقدَّس لديهم – أي الجهاد ضُدَّهم – وبناء على هذا التصوّر المريض والقاصر، أحلّوا لأنفسهم ولحلفائهم الأتراك احتلال المدن والمناطق الكُرديّة مثل عفرين، سري كانيه وكري سبي/ تل أبيض. فيما المعارضة التي تدَّعي العلمانيَّة اتَّهمت الكُرد بـ”الانفصاليَّة ومحاولة اقتطاع جزء من الأراضي السُّوريّة وإنشاء كيانٍ انفصاليٍّ”، وازدادت هذه الاتّهامات بعد الإعلان عن تأسيس الإدارة الذّاتيَّة ووصلت لحَدِّ اتّهامها بالاستيلاء على الثَّروات السُّوريّة وسَرِقتها.

لقد لعبت تركيّا دوراً كبيراً في التَّأثير على مواقف المعارضة السُّوريّة، وتدجينها وتهيئتها لمحاربة الكُرد، وانساقت وراءها معظم أطراف المعارضة التي تتلقّى الدَّعم الماديّ والسِّياسيّ منها، وانبرت تردّد ذات المقولات المجحفة وغير الموضوعيَّة بحَقِّ الكُرد في روجآفا وسوريّا، خاصَّةً بعد أن تطيَّفت المعارضة ودخلت في نفق التَمذهب، وقلبت الصراع في سوريّا إلى حرب أهليَّة تناحريَّة، وبهذا تمكَّنت تركيّا من تحريك أدواتها وبقوَّة، وإحداث شرخ بين القوى الوطنيّة الكُرديّة وباقي أطياف المعارضة التي تدور في فلكها، وغدا الكُرديّ في نظرها “كافراً، متمرّداً، يجب قتاله”، ولا وجود لهم في مستقبل سوريا، حتّى وصل البعض وممَّن يعتبرون أنفسهم من المثقَّفين والسِّياسيّين إلى إطلاق صفات لا أخلاقيَّة وغير لائقة عليهم مثل “البويجيَّة، وضعهم في سوريّا مثل وضع الأفارقة في فرنسا، كانوا يطلبون من النِّظام السُّوريّ وثيقة تُثبت أنَّهم بشر”. هذه النُّعوت السيّئة بحَقِّ الكُرد، إنَّما تُعَبِّرُ عن حقد دفين تجاههم، وهي في بُعدها السِّياسيّ تتجاوز مسألة الخلاف السِّياسيّ، واختلاف وجهات النَّظر والمواقف من حَلِّ الأزمة السُّوريّة، رغم أنَّها كانت موجودة قبل اندلاعها، ولكن ليس بهذا الحَدِّ الفاقع أو على الأقلّ أنَّها لم تكن تصدر من قبل أطراف معارضة يُفترض بها أن تكون مؤيّدة وإلى جانب حقوق الشَّعب، إلا أنَّ المعارضة بمواقفها العِدائيَّة هذه غَذَّتها وكرَّست لحالة من عدم الثِّقة وعدم الاستقرار في سوريّا، ورُبَّما نحن بحاجة إلى سنوات عديدة لإزالتها. ولم ترَ مطلقاً الغُبن الذي لَحِقَ بالشَّعب الكُرديّ.

الحركة الكُرديّة مُمثَّلةً بأحزاب الإدارة الذّاتيَّة ومجلس سوريّا الدّيمقراطيّة، تجاهلت كُلّ التَّوصيفات السَّخيفة والهابطة من قبل تلك المعارضة، وشرعت تَمُدُّ يديها لبناء قاعدة وطنيّة معارضة حقيقيَّة، تحافظ فيها على وحدة وسيادة الأراضي السُّوريّة، وتعمل على حَلٍّ جذريٍّ وحقيقيٍ للأزمة السُّوريّة. فرغم أنَّ الإدارة والمجلس استُبعِدا من جميع المؤتمرات والمحافل الدّوليَّة بشأن البحث عن حَلٍّ للأزمة السُّوريّة، وذلك بضغوط مباشرة من تركيّا، إلا أنَّ الإدارة والمجلس طرحا حلولاً وبرامج واقعيَّة ووطنيّة لحَلِّها، وطرحتا فكرة الحوار بين جميع أطياف المعارضة السُّوريّة. ولا أدَلُّ على ذلك؛ إلا المبادرة التي طرحتها الإدارة الذّاتيَّة في إبريل/ نيسان العام الماضي، والتي تضمَّنت تسع نقاط أساسيَّة، فهي يمكن أن تُشكّل أرضيَّة قويَّة لفَكِّ عُقَدِ حَلِّ الأزمة السُّوريّة، وتبني إجماعاً وطنيّاً حولها.

اليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عاماً على الأزمة، بات الكُرد يُشكِّلون القوَّة السِّياسيّة والعسكريَّة الأولى في سوريّا، ولا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال تهميشهم وتجاوزهم، فالثِّقل السِّياسيّ الوازِن لهم يجعلهم في صُلب أيّ مقترَح أو مشروع لحَلِّ الأزمة السُّوريّة، وكُلُّ تلك التُرُّهات التي أطلقتها المعارضة فيما مضى أصبحت مثل فقاعة الصابون، سرعان ما تلاشت تلقائيّاً، وأصبحت المعارضة الآن خائرة القوى تتناذبها الخلافات وتعمل لصالح أجندات خارجية، وقطعت كُلَّ صلة لها بالشَّعب والوطن السُّوريّ، ووصلت إلى حَدِّ الإفلاس السِّياسيّ والشَّعبيّ.

كذلك مؤتمر “المسار الدّيمقراطيّ” الذي عُقِدَ قبل أيّام في بروكسل تحت رعاية معهد “أولف بالمه”، وسبقته قبل أعوام ورشات عمل جرت في العاصمة السّويديَّة “استوكهولم”، ورغم حضور ممثّلين عن أطياف متعدّدة من المعارضة، وخاصَّةً من “الإخوان المسلمين”، إلا أنَّ ممثّلي مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة تمكَّنوا من إقناع معظم المشاركين بالحَلِّ السِّياسيّ الدّيمقراطيّ، وتغيير مواقفهم حيال القضيَّة الكُرديّة، وضرورة التَّحاور بين السُّوريّين، إلى جانب تثبيت حَلِّ القضيَّة الكُرديّة في أيّ حَلِ سوريّ مرتقب لأزمتها، ورُبَّما هذا يُعَدُّ سابقة في تاريخ المعارضة السُّوريّة.

لم تعد المعزوفة السَّمِجة للمعارضة السُّوريّة تنفعها في لجم التطوّرات الجارية في سوريّا المنطقة عموماً، فهي – أي المنطقة – تشهد تغييراً جذريّاً للبُنى والمفاهيم القديمة الإنكاريَّة التي عفا عنها الزَّمن، ويُفترض بها أن تبادر إلى تغيير ذهنيَّتها الإقصائيَّة، والابتعاد عن التابوهات التي طالما كرَّسها الاستعمار وقسَّم بلادنا بناءً عليها، وتبدأ بطرح مشاريع ذات حوامل ديمقراطيَّة تشاركيَّة لتتبنّى مواقف وطنيّة، والمعيار الأوَّل لوطنيّتها وديمقراطيَّتها إنَّما يتحدَّد من خلال مواقفها الجَّريئة والعادلة من القضيَّة الكُرديّة وحَلِّها بشكل ديمقراطيّ، والقبول بالكُرد شُركاءَ في بناء مستقبل هذا الوطن الذي دمَّرته الحرب، ومن ثُمَّ إدارته أيضاً. وأيُ تفكير خارج هذا السِّياق، إنَّما يتماهى مع مشاريع تقسيم سوريّا وتفتيتها، ويُبقي المعارضة في قفص الاتِهام الأوَّل بأنَّها استجلبت الأعداء الخارجين لاحتلال وطنها، وقبل أيّ خطوة؛ يتوجَّب عليها تقديم اعتذار علنيٍّ للشَّعب الكُرديّ عن الجرائم التي ارتكبتها بحَقِّه، وكذلك إدراج حَلِّ القضيَّة الكُرديّة في برامجها السِّياسيّة، وإبداء مقاربات إيجابيَّة من الشعب الكُرديّ مغايرة تماماً عن سابقاتها، لإعادة بناء جسور الثِّقة والتفاعل بينها وبين القوى السِّياسيّة الكُرديّة، تُمهِّدُ لانطلاقة سياسيّة وحوار بنّاء ومسؤول، يصل بهم إلى حلول واقعيَّة. ولم يعد الشَّعب الكُرديّ يقتنع بوجود “المجلس الوطنيّ الكُرديّ” ضمن صفوف المعارضة، بعد أن تبنّى مواقفها الإنكاريَّة، وكان تمثيله صُوَريّاً، لا يُضفي على الحراك السِّياسيّ الكُرديّ أيّ قوَّة أو معنى، بل انساق هو الآخر مع مشاريع المعارضة في مواقفه وسياساته، خاصَّةً إزاء احتلال تركيّا لمناطق واسعة من روجآفاي كُردستان.

يَجدُر بالمعارضة السُّوريّة أن تتلمَّس رأسها بعد الضربات التي أُنزلت بحركة “حماس” و”حزب الله” في فلسطين ولبنان، فالمنطقة تسير نحو تغييرات كبيرة، ومن شأنها أن تنسف كُل البُنى والهياكل السِّياسيّة القديمة، والقوى المعارضة لموجة التغيير وتتبنّى مشاريع مغايرة، سيجرفها التيّار، ويَتُمُّ التَّعامل معها عن طريق القوَّة العسكريَّة، خاصَّةً القوى الإسلامويَّة المتطرِّفة، أو حتّى إن كانت يمينيّة أو يساريَّة علمانيَّة، ولا يُفهَم أنَّنا نَستَخِفُّ بقوى الشُّعوب في المقاومة، لكن في حالة المعارضة السُّوريّة، باتت في الموقف المضاد لمصالح الشَّعب السُّوريّ، ويمكن الاستدلال عليها من خلال الكثير من الوقائع التي تجري في الدّاخل السُّوريّ وخارجه، فهل تعود المعارضة إلى رُشدِها وتقطع مع سياساتها ومواقفها السّابقة، وتنطلق نحو إجراء تغييرات في هيكليَّتها وأفكارها وذهنيَّتها، أم تبقى محافظة على مسارها، وتواجه مصيراً مشابهاً لـ”حماس” و”حزب الله”؟
الأشهر القادمة حاسمة، ولا مجال للتردُّد أو النَّأي بالنَّفس، فالكُلُّ في المعترك، والفِطنة والذَّكاء السِّياسيّ، هو في كيفيَّة الخروج منه بأقلِّ خسائر ممكنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى