الرِّهـ.ـانُ الخاسِـ.ـرُ
جميل رشيد
يدور نقاشٌ وجَدَلٌ حادٌّ على الإعلام ووسائل التَّواصل الاجتماعيّ، حول نيَّة الولايات المتَّحدة سحب قوّاتها من مناطق شمال وشرق سوريّا، مع إعادة انتخاب ترامب رئيساً لولاية ثانية، ليعيدوا إلى الأذهان سيناريو احتلال مدينتي سري كانيه وكري سبي/ تل أبيض في خريف 2019.
لا يخفى على أحد أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ تتربَّص بمناطق روجآفا وشمال وشرق سوريّا، وتتحيَّن الفرصة المناسبة، وعلى وجه الدِقَّة؛ التفويض الدّوليّ، وخاصَّةً من الولايات المتَّحدة وروسيّا، باعتبارهما القوَّتان الأكثر فعّاليَّة على السّاحة السُّوريّة، لشَنِّ هجوم برّيّ وتقويض الإدارة الذّاتيَّة، لأنَّ التُّركيّ، بشكل عام ينام على أمل أن يرى أحلاماً يُلحِقُ فيها الهزيمة الماحقة بالكُرد وحركته التَّحرُّريَّة ومشروعه الديمقراطي في المنطقة، ويستيقظ ليرى ذلك في أحلام يقظته أيضاً. فالتُّركيّ رضع من صغره – ولا يزال – من فكرة معاداة الكُرد، أينما كانوا، ويرى في وجودهم تهديداً لوجوده بالذّات. فهذه الفكرة والإيديولوجيَّة التي تُحرِّك الأتراك، بنخبهم الفكريَّة والسِّياسيَّة والعسكريَّة والمجتمعيَّة، وكذلك من هم في المعارضة أو السلطة. وقد يختلفان على مسألة ما، ولكن الكُلُّ يتَّفق على رفض الكُرد ومعاداتهم.
لطالما كانت هذه هي الذِّهنيَّة الحاكمة والسّائدة في تركيّا، والتي غَذَّتها التيّارات والأحزاب الفاشيَّة، بشقّيها القومويّ والإسلامويّ، فإنَّ أيَّ حديث عن السَّلام يغدو ضرباً من ضروب العبث ومضيعة للوقت، فمتى ما تحدَّث التُّركيُّ عن السَّلام؛ فليتأكَّد الجميع أنَّ الحروب والمجازر قادمة، ولا يمكن أن يعيش التُّركيّ مع السَّلام مطلقاً، فهما على طرفي نقيض، ولا يمكن أن يلتقيا.
دون شَكٍّ طرأت تغيّرات وتحوّلات كبيرة على الوضع الإقليميّ والدّوليّ في السَّنوات الأربع الماضية التي بقي فيها ترامب خارج البيت الأبيض، وكانت الولايات المتَّحدة فاعلاً كبيراً فيها، إلى درجة أنَّها استفردت بها دون غيرها، باستثناء إسرائيل، وهذه التغيّرات بالتَّأكيد تُلقي بظلالها وتأثيراتها على راسمي السِّياسة الإستراتيجيَّة في الولايات المتَّحدة، خاصَّةً حيال إستراتيجيَّتها في الشَّرق الأوسط، حيث أنَّ الدَّولة العميقة فيها تضع خُطَطاً وسيناريوهات عديدة لما ستؤول إليها الأوضاع، ولا تعتمد سياسة ثابتة حول العديد من القضايا الشائكة في العالم، بالتّالي نشهد أحياناً كثيرة تَقلُّبات وعدم اتّزان في سياساتها، إلا أنَّها في ذات الوقت تحافظ على ثوابت سياساتها ولا تجنح عنها.
الثَّابت أنَّ ترامب، حسب تصريحاته الأخيرة بعد إعلان فوزه في الانتخابات، قد عمل على مراجعة الأخطاء السِّياسيَّة التي ارتكبها خلال فترة ولايته الأولى، وأوَّلها المراهنة على أردوغان في تمرير سياساته في المنطقة، والسَّماح له باحتلال مناطق سري كانيه وكري سبي. وكُلُّ المؤشِّرات تؤكِّد أنَّ ترامب لن يلجأ إلى الاعتماد على أردوغان في رسم خارطة الشَّرق الأوسط وفق مشروع الولايات المتَّحدة، الشَّرق الأوسط الجديد، بل تَمَّ تهميش واستبعاد تركيّا من كُلِّ المشاريع الحيويَّة المتعلقة بالمشروع الأكبر. وما تصريح ترامب باستبعاد أفراد عائلته من تولّي مناصب في إدارته الجديدة – وخاصَّةً ابنته إيفانكا وزوجها جيرارد كوشنير الذي له علاقات تجاريَّة وماليَّة واقتصاديَّة وثيقة وحميميَّة مع صهر أردوغان، بيرات آلبيراق، الذي عيَّنَهُ أردوغان نائباً له فور إعلان فوز ترامب في الانتخابات – إنَّما يقلِّل فرص استفادة أردوغان من ترامب، حيث تسيل شهيته في أن يُجدِّدَ له آماله في السَّيطرة على كامل مناطق شمال وشرق سوريّا عبر الغزو والاحتلال.
البروباغاندا الإعلاميَّة من قبل الاستخبارات التُّركيّة، وحتّى ما قبل فوز ترامب، تتمحور حول ممارسة أسلوب الحرب الخاصَّةِ ضُدَّ الكُرد والشَّعب السُّوريّ، والإيحاء والتَّرويج بأنَّ ترامب سيمنح أردوغان الضوء الأخضر في شَنِّ عدوانٍ جديدٍ على روجآفا وشمال وشرق سوريّا، وهي الأداة التي يُهدِّدُ بها أردوغان منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وذلك كلَّما تفاقمت أزمته السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة، وزادت النَّقمة الاجتماعية على نظامه، ويبدو أنَّه غير مُدْرِك أنَّ الظروف التي شَنَّ فيها عدوانه على كُلٍّ من عفرين، سري كانيه وكري سبي قد تغيَّرت، وهو بهذا الأسلوب الماكر والخبيث يسعى لإغلاق الطريق أمام التغيّرات الكبيرة التي ستطال تركيّا أيضاً، شاء أردوغان أم أبى، كنتيجة للحروب الدّائرة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق، وأيضاً سوريّا.
الثّابت أنَّ ترامب سيسعى إلى إبداء مقاربات إيجابيَّة من الرَّئيس الرّوسيّ بوتين، وهناك احتمال قويّ في إنهاء الحرب الأوكرانيَّة، بشكل من الأشكال، وهذا يُفقِدٌ أردوغان مكانته وأهميَّته لدى روسيّا أيضاً، وكذلك لدى الولايات المتَّحدة، فلم تعد تركيّا تحظى بذاك الاهتمام كما في السّابق بسبب موقعها الجيوسياسيّ والإستراتيجيّ في مواجهة روسيّا ودول منطقة الشَّرق الأوسط التي يُعادُ ترتيب خارطتها الجيوسياسيَّة، حيث أنَّ معظم الدّول العربيَّة وقَّعت اتّفاقيّات سلام مع إسرائيل، ضمن مشروع ما يُسمّى “اتفاقيّات إبراهام”، وجرى استبعاد تركيّا من مشروع “الممرّ الهنديّ/ مشروع داود”، كما أنَّ مشروع “طريق التَّنمية” الذي طرحته تركيّا أخفق بعد سحب كُلٍّ من قطر والإمارات العربيَّة المتَّحدة تمويلها له. كما أنَّ أردوغان لم يحقّق المصالحة مع الحكومة السُّوريّة، ولم ينهِ احتلاله للأراضي السُّوريّة. فالمنطقة ذاهبة باتّجاه التَّهدئة ورسم خرائط جديدة، وهذا ما يثير مخاوف أردوغان، فلم يعد هناك تفكير من خارج صندوق مشروع الشَّرق الأوسط الجديد في شَنِّ مزيد من الحروب وإثارة الصراعات في المنطقة. فبعد القضاء على حركة “حماس” في فلسطين و”حزب الله” في لبنان وسوريّا، وإضعاف الدَّور الإيرانيّ في المنطقة، أو الاستدارة الإيرانيَّة نحو إعادة تطبيع علاقاتها السِّياسيَّة والاقتصاديَّة مع الدّول الغربيَّة، لم تعد هناك غير تركيّا تُصِرُّ على التمسُّك بمشروع الدَّولة القوميَّة التي أصبحت جزءاً من الماضي الغابر، كما أنَّ شَنَّ الحروب يميناً وشمالاً لتنفيذ مشاريع قومويَّة مثل “الميثاق الملّي” أو تحت شعار “العثمانية الجديدة” لم يعد يستسيغها المجتمع الدّوليّ.
كُلُّ من يُسَوّق لفكرة أنَّ الانسحاب الأمريكيّ من مناطق شمال وشرق سوريّا، سيَعقُبُه مباشرة غزوٌ تركيٌّ، إنَّما يحمل أفكار وإيديولوجيَّة دولة الاحتلال التُّركيّ، ولا يثق بقوَّته الذّاتيَّة، وفي ذات الوقت لا يقرأ الظروف والمتغيَّرات في المنطقة بشكل صحيح ومُنصِف، وإنَّما يُسيّرُ سياسات الاحتلال، ويسعى من خلالها إلى نشر الخوف والذُّعر، ويدفع الأهالي نحو النّزوح والهجرة.
لقد عملت الإدارة الذّاتيَّة على نسج جملة من العلاقات الدِّبلوماسيَّة والسِّياسيَّة مع العديد من القوى والدّول الفاعلة في سوريّا وعلى الصعيد العالميّ أيضاً، ولم تتقوقع ضمن مناطقها، بل حقَّقت انفتاحاً واسعاً، والاعتقاد الرّاسخ والصحيح أنَّها ستساهم إلى حَدٍّ كبير في لجم أيّ محاولة تركيَّة لشَنِّ عدوان جديد على مناطق شمال وشرق سوريّا. فالولايات المتَّحدة، بعد سنوات طويلة من العمل مع وحدات حماية الشَّعب ولاحقاً مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة والإدارة الذّاتيَّة، تبيَّنَ لها أنَّ هذه الكيانات ديمقراطيَّة، ولها ثقلها ووزنها في معادلة القوّة والسِّياسة ليس في سوريّا فقط، بل في المنطقة عموماً، ولا يمكن لها أن تستغني عنها مقابل تلبية نزوة عابرة لرئيس مُتهوّر مثل أردوغان، وهذا ما سيأخذه ترامب بالحُسبان في أيّ قرار يتّخذه حيال سوريّا والكُرد لاحقاً، ولن يعمد إلى سحب قوّاته منها، كما أشار له المبعوث الأمريكيّ السّابق لسوريّا “جيمس جيفري”، رغم أنَّه من أكثر الموالين لأردوغان وكُرهاً للكُرد، فهو الذي خطَّط للعدوان على سري كانيه وكري سبي ونفَّذه أردوغان، بكُلِّ غباء.
إنَّ التفاف مكوّنات شمال وشرق سوريّا حول الإدارة الذّاتيَّة وتَمَسُّكِها بقوّات سوريّا الديمقراطية، يُشكِّلُ المصدر الأوَّل لتغيير أعدائها مواقفهم وسياساتهم حيالها. فبعد أن حقَّقت الإدارة الذّاتيَّة استقراراً نسبيّاً في مناطقها، فإنَّها تحوَّلت إلى نقطة جذب واستقطاب لكُلّ السُّوريّين، بمختلف أطيافهم السِّياسيَّة، والمؤكَّد أنَّ هذه الحالة ستُلقي بتأثيراتها على المناطق الأخرى من سوريّا أيضاً، في مناخات تعمل فيها الدّول العربيَّة والغربيَّة على إنهاء الحرب في سوريّا، والبدء بمشاريع إعادة الإعمار، خاصَّةً بعد أن نأت الحكومة السُّوريّة بنفسها عن الصراع الدّائر بين كُلٍّ من حزب الله وإيران مع إسرائيل، الموقف الذي لاقى قبولاً وترحيباً من قبل الدّول العربيَّة، وخاصَّةً الخليجيَّة. فالموقف العربيّ له دوره المؤثِّر في قطع الطريق أمام تركيّا لارتكاب أيّ مغامرة أو حماقة في شَنِّ عدوان على الأراضي السُّوريّة. فعقب العمليَّة التي استهدفت مصنع “توساش” لصناعة الطائرات المُسيَّرة؛ صَبَّت جام غضبها على مناطق الإدارة الذّاتيَّة، دمَّرَت فيها البُنى التَّحتيَّة والمرافق العامَّة والمشافي والأفران، في قصف متعمَّد بهدف تشكيل معارضة شعبيَّة ضُدَّ الإدارة الذّاتيَّة، إلا أنَّ مكوّنات المنطقة اعتادت على هذا النَّوع من الاعتداءات، ولم تَعُد تأبَه لتهديدات ووعيد الاحتلال التُّركيّ، وجُلُّ ما يمكن أن تلجأ إليه دولة الاحتلال التُّركيّ في ظِلِّ إدارة ترامب، هو استمرار عمليّات استهداف مناطق الإدارة عبر الطيران المُسيَّر والقصف المدفعيّ، ولا يمكن أن يُفتحَ لها المجال لِشَنِّ عدوان برّيٍّ واسعٍ.
إنَّ رهان أردوغان على ترامب في نيل موافقته على شن العدوان بمكالمة هاتفيَّة، هو رهان على حصان خاسر، ولن ينفع أردوغان في التهرّب من استحقاقات المرحلة الرّاهنة، والاستجابة لمتطلّبات التغيير، والنّزول عن الشَّجرة وقبول حقوق الشَّعب الكُرديّ في العيش بسلام أسوة بالشُّعوب الأخرى.
وفي اجتماع ثٌلاثيٍّ ضَمَّ كُلّاً من مستشاري الأمن القوميّ لكُلٍّ من الولايات المتَّحدة، روسيّا وإسرائيل في القدس في شهر يونيو/ حزيران عام 2019؛ تقرَّر فيه إضعاف دور كُلٍّ من إيران وتركيّا في سوريّا والمنطقة، ولا يزال القرار فاعلاً؛ فإن كانت إيران قد تراجعت عن مواقفها المتشدّدة السّابقة، وضَحَّت بأدواتها في المنطقة؛ حركة “حماس” و”حزب الله” و”الحوثيين” ولاحقاً الحشد الشَّعبيّ في العراق، وبدأت تنتهج سياسات ومواقف مغايرة بُغيَةَ إنقاذ نفسها من التسونامي السِّياسيّ والعسكريّ في المنطقة؛ فإنَّ تركيّا استدركت الخطر الذي ينتظرها، ولا يمكن لها أن تُقدِمَ على ارتكاب خطأ كبير في شَنِّ عدوانٍ آخر على مناطق شمال وشرق سوريّا في ظِلِّ هذه الظروف، وإلا فإنَّها تَسيرُ نحو حتفها، الأمر الذي لن يُبقي ولا يُذر.