الكُرد والمتغـ.ـيّرات الدّوليَّة والإقلـ.ـيميَّة
جميل رشيد
تُواجِهُ الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا تحدّيات مصيريَّة كبيرة على الصَّعيد السِّياسيّ، الاقتصاديّ والعسكريّ، منها ما هو داخليّ، ومنها ما هو خارجيّ بفعل المُتغيّرات المتسارعة في منطقة الشَّرق الأوسط والعالم، وظهور معادلات توازن عسكريّة وسياسيّة جديدة.
الحرب في غزَّة ولبنان أفرزت معها جملة مُعطيات، أبرزها التغيّر الجيوسياسيّ في عدد من بلدان المنطقة، التي هي بالأساس تعاني من أزمات بنيويَّة حادَّة، سياسيّاً وعسكريّاً، وقبلها مجتمعيّاً. ولا يُخفى على أحد أنَّ معظم أنظمة دول المنطقة فرضت نفسها على شعوبها بقوَّة الحديد والنّار، في مرحلة تاريخيَّة معيَّنة بعد الحرب العالميَّة الثّانية، عبر نُخَبٍ بعيدة عن تمثيل حتّى الفئات التي انحدرت منها. غير أنَّ شمس التَّوازنات ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية ذاهبة نحو الأفول، وبدأت تلك الدّول تهتز وعلى وشك الانهيار تحت سياط الحرب العالميَّة الثّالثة، التي انتشرت رُقعتها على كامل جغرافيَّة المنطقة تقريباً، ولم تعد هناك دول تملك القدرة على مقاومة مَدِّ التغيير، بل شرعت تبحث عن توافقات بينها وبين القوى التي تقود التغيير، وعلى رأسها الولايات المتّحدة وإسرائيل، وتأتي تركيّا وإيران في مقدّمة هذه الدّول.
وسط هذه المعمعة وحالة التموّج التي تعيشها المنطقة؛ تبدو شروط وظروف استمرار الإدارة الذّاتيّة بهيكليَّتها الرّاهنة أقوى ممّا في السّابق، في حين أنَّها غدت جزءاً من معادلة التغيير في المنطقة، من خلال تبنّيها النَّهج الدّيمقراطيّ المنفتح على الجميع، فالاتّهامات الموجَّهة للإدارة بأنَّها وحيدة الاتّجاه؛ سقطت ولم يعد لها فاعليَّتها السِّياسيّة.
وفي الجانب الآخر؛ واصلت الإدارة عملها على النَّهج الجامع بين مكوّنات المنطقة ككُلٍّ، والشَّعب السُّوريّ عامَّة، وهو الرِّهان الأقوى في مواجهة التحدّيات التي تواجهها، داخليّاً وخارجيّاً. إلا أنَّها في ذات الوقت حافظت على توازن العلاقة مع جميع الأطراف الفاعلة في الأزمة السُّوريّة، وكانت حاضرة على طاولات البحث، وفي خِضَمِّ النِّقاشات الإقليميَّة والدّوليّة بخصوص حَلِّ الأزمة السُّوريّة.
فالإدارة تحمل مشروعاً وطنيّاً عابراً للإيديولوجيّات القوميَّة والدّينيَّة والمذهبيَّة، وأوصلت نفسها إلى منعطف دقيق وحسّاس، امتلكت فيها القدرة لأن تغدو قوَّةً يُحسَبُ لها، ليس على الصَّعيد الوطنيّ السُّوريّ فقط، بل على الصَّعيد الإقليمي والدّوليّ أيضاً. وتمكَّنت من بناء جسور تواصل مع الولايات المتّحدة والدّول الأوروبيَّة، وبذات السويَّة مع الدّول العربيَّة، فيما كانت الأولويَّة لديها لإقامة تحالفات واصطفافات مع القوى الوطنيّة والدّيمقراطيّة السُّوريّة، وأصبحت مركز جذب واستقطاب لها، حتّى أنَّها باتت تجد فيها ساحتها التي يمكن لها أن تُعبِّر فيها عن أفكارها بكُلِّ أريحيَّة وشفافيَّة. وهذا بطبيعة الحال لا يُسقط عنها تبنّيها لمشروع حَلِّ القضيَّة الكُرديّة في سوريّا المستقبل، فهي حاملة لحَلِّ العديد من القضايا القوميَّة والإثنيَّة والدّينيَّة التي تَمَّ تجاهلها منذ نشوء الدّولة السُّوريّة وإلى يومنا، تلك القضايا التي كانت سبباً في وصول سوريّا إلى ما وصلت إليه من قتل ودمار وتشريد وتغييب.
فالقضيَّة الكُرديّة التي جرى طمسها وتهميشها، وفي ظِلِّ غياب أيّة حلول جريئة وواقعيَّة لها؛ حتّى ولو على المستوى النَّظري السِّياسيّ، إن كان من جانب الحكومة السُّوريّة أو ما تسمى بالمعارضة، رغم أنَّها قضيَّة وطنيّة سوريَّة بامتياز؛ فإنَّها بحاجة إلى حَلٍّ عادلٍ يحفظ للشَّعب الكُرديّ حقوقه ضمن سوريّا ديمقراطيَّة. والمؤكَّد أنَّ عدم حَلّها؛ يعني في النِّهاية أنَّ أيَّ رؤية أو تصوّر لحَلِّ وطنيّ سوريٍّ سيبقى ناقصاً ومبتوراً، وهو ما دفع الإدارة الذّاتيّة إلى تبنّي هذا الحَلّ وفق النَّهج الدّيمقراطيّ الذي تنتهجه، وهذا لا يعني بالضرورة بأنَّ الإدارة “كردية” صرفة، رغم أنَّ الكُرد قادوا في البداية مسيرة ثورة 19 يوليو/ تمّوز التي أفضت إلى تأسيس الإدارة الذّاتيّة، فالعرب، السُّريان الآشور وغيرهم يشاركون في المفاصل الأساسيَّة للإدارة، وهي ليست مُقتصرة على الكُرد فقط، إلا أنَّ الكُرد، وباعتبارهم أولى ضحايا التَّهميش، ولإدراكهم وقناعتهم بأنَّ طريق الوصول إلى حقوقهم يَمُرُّ عبر الدّيمقراطيّة؛ فإنَّهم حملوا مشروع التغيير الدّيمقراطيّ في سوريّا، وتجسَّد هذا المشروع في الإدارة الذّاتيّة، التي تمكَّنت من استقطاب نخب سياسيّة وفكريَّة ومجتمعيَّة إليها، ومن مختلف المكوّنات العرقيَّة والقوميَّة والدّينيَّة في شمال وشرق سوريّا. هذه القناعة لدى الكُرد لا تنبع من عقدة النَّقص والخوف من طرح قضيَّتهم بكُلِّ تجلّياتها، بل هي مبدأ ثابت لديهم، وبنوا عليها مشروعهم السِّياسيّ والفكريّ.
تتّجه الأنظار في هذه المرحلة الحسّاسة والدَّقيقة من عمر الأزمة السُّوريّة، وفي خضَمِّ التطوّرات التي تشهدها المنطقة، إلى الإدارة الذّاتيّة، ومن خلال توجّهين على تضادٍّ مع بعضهما:
الأوَّل يرى فيها قوَّة حَلٍّ للدَّفع نحو حَلٍّ ديمقراطيّ في سوريّا، باعتبارها – أي الإدارة الذّاتيّة – تمتلك أدوات الحَلِّ وإمكانيّات إطلاق حوار وطنيّ يُفضي إلى حَلٍّ واقعيّ وعادل وديمقراطيّ، ومُستدامٍ في ذات الوقت، لحَلِّ الأزمة السُّوريّة. وجميع القوى المؤمنة بهذا المشروع؛ تُعوّل على الإدارة الذّاتيّة في فتح الطريق أمامها للمشاركة في إنهاء الأزمة السُّوريّة ووضعها على سِكَّةِ الحَلِّ.
والثّاني؛ يراهن على فرط عقد الإدارة، وبالتّالي خنق آمال الشَّعب السُّوريّ في رؤية وطنهم معافى وقد خرج من أزمته. وأصحاب هذا التوجّه ومناصروه يعقدون آمالهم على دولة الاحتلال التُّركيّ في توجيه ضربات قاصمة للإدارة، وعلى رأسهم جماعات الإخوان المسلمين، والمجلس الوطنيّ الكُرديّ، وتيّارات أخرى لا وزن سياسيّ لها، تدور في الفلك التُّركيّ تحت يافطة الائتلاف. كذلك يحاول هذا التَّحالف القذر استمالة الحكومة السُّوريّة وممارسة الضغوط عليها ونقلها إلى موقع المواجهة مع الإدارة الذّاتيّة، عبر تحريك أذرعها في الأطراف والدّاخل، مثل دير الزور، واستنزاف الإدارة أمنيّاً واقتصاديّاً، وإثارة الفوضى وإشاعة حالة عدم استقرار في مناطق الإدارة. فيما دولة الاحتلال التُّركيّ تسعى لخلق حالة من الرُّعب والإرهاب عبر الاستهداف المستمرّ للبُنى التَّحتيَّة والمنشآت الحيويَّة، في محاولة يائسة لوضع مكوّنات المنطقة في مواجهة الإدارة، وخلق معارضة لها من الدّاخل؛ لتفكيك نسيجها الاجتماعيّ المتجانس إلى حَدٍّ كبير، وبثِّ الفتن القوميَّة والدّينيَّة والمذهبيَّة. إلا أنَّ الحكومة السُّوريّة لم تنجرّ للانخراط في ذاك المشروع، على الأقلّ في الوقت الرّاهن، وقد تأكَّدَ ذلك من خلال تصريحات عديدة لمسؤوليها، ومن المُفترض أن تقف فيها إلى جانب الإدارة، في الوقت الذي تَمُرُّ فيها علاقاتها مع حليفها الإيرانيّ في حالة فتور واضح.
فالقضيَّة الكُرديّة، وضمن آفاق حَلِّها المُرتَقب، باتت تحظى بأهميَّة كبيرة لدى الأوساط الإقليميَّة والدّوليّة، وللإدارة الذّاتيّة والحركات الكُرديّة دور كبير في دفعها إلى الأمام، لتتصدَّر عناوين حَلّ الأزمة السُّوريّة، وموجة التغيير العاصفة في المنطقة؛ تشير بكُلِّ وضوح إلى أنَّ القضية الكُرديّة تحتلُّ أجندات واهتمامات دول القرار العالميّ، وهو ما تتخوَّف منه القوى والدّول الكابحة والمُعرقلة لحَلِّها، التي لم تعد تملك تلك القوَّة كما في السّابق لإغراق حقوق الشَّعب الكُرديّ في بحار من الدِّماء، وبالتّالي طمسها. فدولة الاحتلال التُّركيّ استنفذت قواها السِّياسيّة والعسكريّة في عرقلة حَلِّ القضيَّة الكُرديّة، وفقدت أهميَّتها حتّى لدى حلفاء الأمس، كما أنَّ السِّياسة الازدواجيَّة التي مارستها طيلة عمر الأزمة السُّوريّة، في المناورة ما بين المعسكر الغربيّ وروسيّا قد وصل إلى نهاية مأساويَّة، وفقدت معها مصداقيَّتها لدى الطرفين. كما أنَّ مشاريعها الاحتلاليَّة في مَدِّ نفوذها في المنطقة، هو الآخر مُنِيَ بفشل ذريع. وعلى الضِفَّة الأخرى؛ مارس الكُرد سياسة مسك العصا من المنتصف، وحافظوا على توازنهم السِّياسيّ مع جميع القوى الدّوليّة، ما جعلهم يكسبون ثقتهم، ويدخلون معهم في شراكات سياسيّة واقتصادية قويَّة وفاعلة، وهذا حَقِّ طبيعيّ ومشروع لهم، أُسوةً ببقيَّة دول المنطقة، وقد تظهر مفاجآت كبيرة غير متوقَّعة في الأيّام والأشهر القليلة القادمة على صعيد تحالفات الكُرد والإدارة الذّاتيّة، قد تقلب معها العديد من المعادلات السِّياسيّة الرّاهنة، وتُدشّن معها مرحلة جديدة، عنوانها الرَّئيس، طرح حَلٍّ للقضيَّة الكُرديّة على أعلى المستويات، والمُبادَرة إلى وضع خطط واضحة وشفّافة لقبول الكُرد من قبل العديد من القوى الإقليميَّة والدّوليّة، وهذا ليس تَرَفٌ تنظيريٌّ بقدر ما هو قراءة واقعيَّة وموضوعيَّة لسياق ومسار التطوّرات في المنطقة والعالم، والكُرد جزء فاعل فيها.
فما على الكُرد والحركات الوطنيّة الكُرديّة إلا الإسراع في ترتيب بيتهم الدّاخليّ، عبر تحقيق وحدتهم الوطنيّة على أسس صحيحة وواضحة، ونبذ الخلافات الحزبيَّة والإيديولوجيَّة جانباً، والتَّحضير لما ستؤول إليه التغييرات في المنطقة، وتهيئة الأرضيَّة لبناء مرجعيَّة وطنيّة كُرديَّة، تكون قادرة على تمثيل الكُرد في المحافل الدّوليّة والإقليميَّة، وهو ما يتأمَّله الشَّعب الكُرديّ في المستقبل المنظور.