مانشيتمقالات رأي

محطتان بارزتان في مأزق مشروع الدولة القومية

كمال حسين

تطوران قد حدثا في الساعات الماضية، ويتصلان في مجريات الأحداث الدولية في أهم بؤرتين متفجرتين على وجه الكرة الأرضية اليوم.

الأول، حول إسرائيل والمتعلق باتخاذ المحكمة الجنائية الدولية قرارها المتضمن تجريم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت، مع قائد حماس السابق محمد الضيف، والذي قضى مقتولاً في حرب غزة، مع الطلب من الدول المئة وأربع وعشرين الموقعة على ميثاق المحكمة بإلقاء القبض على الاسمين الأولين وتسليمهما إلى المحكمة في حال زيارتهما لأي من هذه الدول.

والثاني، يتصل بمخاطر التصعيد المتبادل بين أطراف الحرب الأوكرانية الروسية، والحديث المتنامي حول احتمال استخدام الروس السلاح النووي في مواجهة قيام أوكرانيا بإطلاق صواريخ بعيدة المدى أمريكية الصنع على أعماق الأراضي الروسية.

التطوران اللذان لا يدعان مجالاً للشك بأن العلاقات الدولية تواجه مأزقاً أخلاقياً، وأفقاً مسدوداً بالغ الخطورة على السلم والاستقرار الدوليين، وعلى حياة البشرية جمعاء.

فإسرائيل وبقيادة اليمين الديني الحاكم قد نجحت خلال الأشهر الماضية بفرض نفسها كقوة إقليمية وحتى دولية شبه حاسمة في إدارة الصراعات والحروب المندلعة مع أذرع إيران في غزة ولبنان وسوريا واليمن ومع إيران نفسها، وهي إذ تثبت كفاءتها لخوض أكثر من حرب، وعلى أكثر من جبهة، وفي نطاق جغرافي متعدد الأبعاد، ثم حين تعلن عن جاهزيتها كدولة ومجتمع للانخراط في جبهات جديدة، فهي تكون بذلك قد تخلقت بغطرسة القوة التي لا تحسب لأحد.

والحقيقة الموضوعية في الحكم على الأطراف المتصارعة في المشهد الغزاوي واللبناني بعامة؛ أنها أطراف من نزوع ديني عقائدي وقومي واحد، والفارق بينهما، هو في معادلة القوة فقط، والتي تميل بشكل كبير لصالح إسرائيل، والتي بدورها باتت تحفز سياسة الدولة العبرية إلى مزيد من الصلف والاستهتار بالقوانين والأعراف الدولية التي كان من أهم تجلياتها الافصاح عن النية في ضم الضفة الغربية، ومحاولة فرض السيادة الإسرائيلية الدائمة على غزة، ضمن سيرورة مكرورة لعمليات التوسع والعدوان، قد تكون ذكرت الدول الفاعلة في قرارات الجنائية الدولية بظروف انطلاق الحروب النازية.

نخلص في هذه النقطة إلى بديهية تؤكد إن الأطراف المنخرطة في الصراعات والحروب الإسرائيلية  الدائرة في المنطقة اليوم هي أطراف ذات مشاريع دينية عقائدية، ودول ذات أحلام إمبراطورية دولتية ينطبق ذلك ليس على إسرائيل وحسب، بل أيضاً على إيران وتركيا إلى حد كبير؛ لكن المختلف في   المشهد الإقليمي، والذي يسترعي الانتباه، يتعلق بالتناقضات البنيوية المتصلة بواقع الدولة والمجتمع الإسرائيلي الذي يحمل هوية مزدوجة، دينية عقائدية، من جهة تتمثل في الالتفاف بالغالب حول سياسة نتنياهو بصفته بطل قومي يحقق لهم إنجازات تتصل بمخاوفهم الوجودية، وديمقراطية مدنية علمانية في كثير من وجوهها، من جهة اخرى تعكسها أجواء الحريات، وحياة المجتمع المدني، وحركة التظاهرات المنتقدة بشدة لسياسات اليمين الديني المتطرف، المتمثلة بحكومة نتنياهو.

وعلى مقلب الحرب المستمرة منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام بين الروس والأوكرانيين، والتي دخلت الآن في أطوار جديدة وخطيرة للغاية، وخاصة بعد أن جاء الرد الروسي على استخدام الأوكرانيين صواريخ بعيدة المدى لضرب العمق الروسي، على صيغة التهديد باستخدام السلاح النووي التكتيكي؛ كَرَدٍّ على التحديات الجديدة؛ لا تختلف هذه الحرب في دواعيها وأسبابها عن أن تكون حرباً توسعية رسمتها عقلية التفكير القوموية الروسية المتجذرة في الثقافة الروسية منذ العهود القيصرية، وهي تختلف عن حروب الاتحاد السوفيتي السابق، التي كانت تقوم تحت غطاء ايديولوجي ومسوغات طبقية ضمن مفهوم الصراع الطبقي العالمي بين ما يسمى قوى التحرر العالمية وقوى الإمبريالية والاستغلال.

هي حرب لم توفق البروباغندا الإعلامية الروسية بإكسابها شرعية وطنية روسية، بمعنى أنها حرب قد جاءت للدفاع عن المصالح القومية الروسية في مواجهة تهديد محتمل، وذلك لأن الأوكرانيين كانوا قد سبق وتخلوا عن أسلحتهم النووية، في خطوة تنفي عنهم نزعة الضلوع في تهديد الأراضي الروسية، ثم أن الهجوم الروسي المستهتر برغبة الإوكرانيين في سلوك طريق الاستقلال؛ قد باغتهم في عاصمتهم كييف في الأيام الأولى للحرب، ضمن مسمى عملية روسية في أوكرانيا.

أما الحديث عن الهجوم الروسي كان من مهامه ردع حلف الناتو عن الاقتراب من الحدود الروسية، لم تسنده الوقائع، حيث لم تُقْبَل أوكرانيا ضمن الناتو حتى الآن، وكل الدعم الغربي الحاصل لأوكرانيا حتى الآن يجري تحت عنوان دعم حق أوكرانيا في تصليب خياراتها في الاستقلال.

والغريب الذي يحمل متناقضات شديدة في المقاربة الروسية لهذه الحجة؛ أنها تستقوي على الأوكرانيين وداعميهم ضمن حلف الناتو، بالمراهنة على دور يعولونه على الرئيس ترامب الذي يرأس أهم دولة في الناتو، وقد عملوا بشكل واضح لمساعدته في الوصول إلى البيت الأبيض في الولاية الأولى والثانية.

نصل إلى خلاصة مؤداها إن الحرب في أوكرانيا في نشأتها كانت عارية من أي غطاء سياسي أو أخلاقي، سوى نزعة الحرب من أجل التوسع والهيمنة القومية على حساب الدول والأعراق الأقل قوة، هذه النزعة التي كان قد حذر منها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، وفي سياق الموقف من مخاطر محتملة جراء البيروسترويكا التي أطلقها غورباتشوف في ثمانينات القرن الماضي؛ بقوله  رغم ما ستفقده الشيوعية من بريقها في اليوم التالي لانهيار الاتحاد السوفيتي، إلا أن الخطر سيبقى ماثلاً  في الأحلام الإمبراطورية المتجذرة حول روسيا قيصرية.

إلى ذلك يمكن لأي متتبع أن يتلمس هذا النزوع في الإستراتيجية الروسية عبر تهافت السياسة الروسية البوتينية على تشكيل محاور دولية وإقليمية شرق أوسطية من نفس النمط والنزوع، حيث يأتي تقاربهم مع الأتراك، وتحالفهم مع الإيرانيين، وحتى تنسيقهم المكشوف مع إسرائيل نتنياهو، وحديثهم الدائم عن إحياء دور الكنيسة ليخدم طريقة التفكير القومية والعقائدية التي تقف خلف الحروب، ولا تتفق مع السلم والاستقرار.

وعلى ضوء ما تقدم يمكن الجزم بأن فكرة الحرب، والحرب بذاتها هي ناتج عن وعي خاطئ أو مشوه، وليست بحثاً عن حقوق ضائعة، وإن ما تدفعه الشعوب تحت يافطة البحث عن الحقوق، يفوق بكثير المعادل الموضوعي لهذه الحقوق، التي يزعم مشعلو الحروب أنهم متجهين لتحصيلها أو إعادة انتزاعها. ولا بد للبشرية من الاهتداء إلى وعي جديد حول الطرق الأمثل لتحصيل وصيانة الحقوق، وإن أي متابعة هادئة لحجم الضريبة التي تدفعها الشعوب في منطقتنا والعالم تحت شعارات الشرف القومي، ونصرة الأديان، واستعادة مكانة كانت في التاريخ؛ تصيب صاحبها بالذهول من هولها.

وأيُّ مكان في التاريخ يليق بالضريبة التي دفعها الغزاويون تحت مهماز حماس وجماعات الإسلام السياسي. أو التي يدفعها اللبنانيون والإسرائيليون اليوم مع الفارق في الحجم والنسبة، وأي نصر، وأي تاريخ هو المبتغى حين يكون الثمن خروج شعب بغالبيته من الجغرافية التي وُلِدَ فيها أو عرفها.

والمبدأ نفسه ينحسب على المآسي الحاصلة بين الروس والأوكرانيين، وكما في غير مكان على وجه الكرة الأرضية.

إذن تدور المسألة حول وعي الشعوب المجرورة إلى الحرب، وحول وهم الانتصار، وفكرة الكرامة القومية، وواجب نصرة الأفكار الدينية؛ والتي تقف خلفه فلسفة الدولة القومية، والايديولوجيات الدينية   التي تتعدى على وظيفة ودور الآلهة.

ولما كان من وظائف الفلسفة، أي فلسفة، هي العمل على إعادة تشكيل الوعي؛ فلا ريب بأن الفلسفة المتحكمة بعقل الدولة القومية والدينية السائدة هي فلسفة بائسة، وتحتاج إلى مراجعة في الجذور، وإذا كانت المراجعة على مستوى العالم والحضارة مسألة من شغل التاريخ ومن مهامه؛ فإنها في منطقتنا مهمة آنية وملحة، وتتوفر عناصرها بشكل لا يقبل المنافسة، ولا يحتمل التأجيل؛ أنها في فكرة الأمة الديمقراطية المنبثقة عن الفلسفة الأوجلانية العامة.

مشروع الأمة الديمقراطية ملاذ شعوب المنطقة، والفلسفة الأوجلانية مخرج الفلسفة من بؤسها، وفرص انتصارها جدية وواقعية لعاملين مرتبطين بظروف المنطقة العربية، ومنطقة الشرق الأوسط ككل.

الأول، قيام تجربة الإدارة الذاتية كواقع ملموس على الأرض، وكنظام سياسي يسعى إلى تكريس المجتمع الديمقراطي، وتتويج الأمة الديمقراطية كفكرة بديلة، وبالاهتداء بفلسفة المفكر والفيلسوف أوجلان، هذه الفلسفة التي تقترب من أن تصبح جماهيرية لدى قطاعات واسعة من شعوب المنطقة ونسائها.

والثاني، وجود العامل الإسرائيلي المأزوم أخلاقياً، والمتفوق في إمكاناته الحضارية.

نعم إسرائيل بوجهها اليميني الديني المتطرف؛ وسيما بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية؛ قد أصبحت أمام مأزق أخلاقي عميق، وأصبح صوت التيارات الديمقراطية العلمانية فيها مسموعة أكثر، كما أصبح مطالباً باجتراح حلول لا تستند في جوهرها على التوصية التي أطلقها مؤسس الدولة العبرية بن غوريون، والتي تقول إن “على إسرائيل في رحلة البقاء والديمومة؛ أن تحرص على إحاطة نفسها بدويلات من جنسها دينية وطائفية.

بل عليها أن نقتدي بالوصفة الأوجلانية التي تقول “على القبيلة العبرانية المتفوقة بحقل المال والفلسفة والرفاه والديمقراطية؛ إذا شاءت إلا تتعثر بهتلر جديد، عليها أن تعمم نموذجها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى