مانشيتمقالات رأي

رصد لحيثيات وآفاق الحدث السوري بعد سقوط الأسد

كمال حسين

أخيراً سقط نظام بشار الأسد، وسقطت زوجته وشريكته الأقوى في حكم البلاد أسماء الأخرس، كما سقط معه شقيقه ماهر الأسد، وسقط اسم الفرقة الرابعة، وتراجع نفوذ آل جدعان، عائلة زوجته العربية السنية في دير الزور السورية، وطويت مع سقوط هؤلاء صفحة من تاريخ سوريا الحديث. وها هم السوريون يتنادون إلى الساحات العامة على مدى الأيام العشرة الماضية للتعبير عن فرحتهم، وكل لدوافعه وعلى طريقته، وها هي صور سجن صيدنايا وقصة السجون ما تزال تتصدر المشهد، وتشغل اهتمام وسائل الإعلام، وفي الوقت الذي تلقي الضوء على أخلاق نظام الاستبداد المافيوي الفاسد؛ القصة التي بدأت ولم تنته فصولاً بعد.

خرج نظام الحزب الواحد والفرد الواحد والعوائل المتحكمة بمصير البلاد ومواردها وخياراتها الإستراتيجية؛ ليخلي المكان والقرار والمصير لمن خطط وأَعَدَّ العدة لهذه اللحظة المعقدة منذ سنوات، وها هو أردوغان يتوج نفسه فاتحاً، ويدفع بمدرسته الإسلاموية المتطرفة للصلاة إلى جواره وخلف إمامته وبرفقة البنادق في جامع بني أمية الكبير، وتحقيق حلمه الكبير استعداداً لقطف ثمار الانتصار، ولتعلن نفسها الوريث الشرعي الأقوى والأحق والأكفأ لوراثة تركة الأسد في السياسة والاقتصاد والجغرافيا البشرية، كما في امتلاك حق التصرف فيها بيعاً وشراءً.

ومع وصول طلائع الفاتحين الإسلامويين إلى شوارع المدن السورية الكبرى في حلب ودمشق؛ حتى انطلقت زغاريد المتباهين بنشوة الانتصار، ودوت شعارات داعش في ساحة سعد الله الجابري، وفي سوق الحميدية الدمشقي، وفي ساحات المدن السورية المختلفة. 

ولأن مناخ الابتهاج بقي مخيماً على خيال السوريين بتحقق حلم طالما انتظروه على مدى عقود؛ فإن صور حكومة إدلب المتكونة من أثنا عشر وزيراً من الملتحين، وهي تتسلم مقاليد السلطة في العاصمة دمشق، مع صورة رئيسها، وهو يؤم الصلاة في المسجد الأموي؛ قد شكل كابوساً جديداً بدأ يبدد فرحتهم، وإن قلق اللحظة التالية قد صار حاضراً، ويتفاعل بقوة في الوعي الجمعي لعديد فئات السوريين وأعراقهم وطوائفهم، وبكلمة واضحة؛ إن إعلان هيئة تحرير الشام، المصنفة على قوائم الإرهاب؛ وعلى لسان رئيسها أحمد الشرع الملقب بالجولاني سابقاً، وسليل تنظيم القاعدة؛ عن نجاح الثورة السورية عبر تبوئه موقع القيادة في سلطات البلاد، وتتويج نفسه مؤتمناً على أحلامهم، ومستعداً لإدارة مؤقتة في البلاد لمدة ثلاثة أشهر؛ ينقل بعدها السلطة إلى حكومة انتقالية موسعة تأخذ على عاتقها إعداد الدستور الدائم للبلاد، وإجراء الانتخابات العامة، وحديثه عن حماية الأقليات، وضمان مشاركتهم، واحترام حقوقهم الدينية والثقافية، وتحسين مستوى معيشتهم، وتكرار الوعود بزيادات كبيرة على الرواتب والأجور؛ لم تعد تقنع السوريين، ولم تخفف من عوامل قلقهم، كما لم تسندها الزيادات الكبيرة جداً على أسعار المحروقات وأسعار الخبز، وعودة مشوار الارتفاع في أسعار الصرف للعملات الأجنبية، والأهم من كل ذلك انتشار  أعمال الانتقام والتنكيل بحق العلويين والكرد وباقي الأقليات الأخرى.

وبما أن قواعد التفكير المنطقية تتفق مع القول الذي يلحظ إن الرسائل تُقرأ من عناوينها، وبأن ما حصل حتى الآن لا يخرج عن كونه احتلالاً تركياً إسلاموياً لسوريا؛ استخدم لتنفيذه فريقين من جبهات الإسلام السياسي، الأول جبهة سمت عمليتها (بفجر الحرية). وتتكون من فصائل إسلاموية من جذور قومية تركمانية في أغلبها تطورت تحت مسمى الجيش الوطني، وتحمل في أولوياتها أجندات تركية، وفي صدارة مهامها كان توظيف طاقتها ضد المكون الكردي، كما تميز سلوكها بسوء تعاملها معه، والعمل على تخليص المناطق الكردية الحدودية؛ سيما تل رفعت ومناطق الشهباء عملياً، ومنبج وصولاً إلى كوباني من أيدي قوات سوريا الديمقراطية، وذلك بالاستناد على دعم ومشاركة مباشرة من قوات جيش الاحتلال التركي.

والثاني جبهة (ردع العدوان) وقد تشكلت من فصائل إسلاموية سورية وغير سورية؛ انضوت تحت مسمى هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني؛ الذي كان توجهه نحو دمشق، وقيادة أعمال الإجهاز على سلطات بشار الأسد الذي تخلى عن السلطة بطريقة ملتبسة، ودون اللجوء إلى مقاومة تذكر؛ الأمر الذي ما يزال يثير أسئلة عدة، ويترك الباب موارباً في فهم وتحليل مجريات ليلة السقوط.

الجولاني، الذي بدأ يطل باسمه الجديد أحمد الشرع، وديكوره الجديد، وينتحل شعارات أكثر مدنية وأقل تطرفاً؛ محاولاً التنصل من صبغة الإرهاب، وساعياً إلى نيل اعتراف ومساندة المجتمع الدولي والاقليمي فالمحلي.

وبالعودة إلى توصيف ملامح وأدوار شخصية أحمد الشرع حتى الآن؛ فيمكن القول بدون تردد بأنه شخصية براغماتية، متنقلة في مواقفها واصطفافاتها، يريد أن يوازن بين متناقضات عدة، قد يكون جاء لتنفيذ مهمتين، الأولى، إسقاط النظام السابق، وتفكيك جيشه بسلاسة ودون مضاعفات كبيرة تذكر، الأمر الذي تحقق على يده بكل نجاح وألمعية، والثاني التواطؤ في تفكيك مقومات الدولة السورية الموحدة عبر الضلوع في خلق عاملين أو تطورين؛ أحدهما التجاهل المتعمد والمكشوف لعمليات تدمير ترسانة جيش النظام؛ الترسانة التي استهلك بناؤها جهد عشرات السنين، والتي أصبحت حمايتها، والاستفادة منها تقع على عاتقه منذ الدقيقة الأولى لسقوط بشار الأسد، والتطور الثاني، وهو الأهم؛ تطعيم المعركة السياسية القادمة، والباسها لبوساً ايديولوجياً إسلاموياً، وإعلان نواياه حول ذلك في بلد أغلبيته ليست من العرب السنة، كما يزعم أنصار الإسلام السياسي؛ بل يتشكل من فسيفساء دينية وطائفية ومذاهب وأعراق وقوميات، لا تسمح  بتغليب قيم وثقافة أي منها على باقي المكونات؛ الأمر الذي وَلَّدَ قلقاً متزايداً وهواجس   لم تنقطع في أوساط هذه الأقليات والمكونات؛ سيكون لاستمرارها، ومع تفاقم الفلتان الغرائزي، وتصاعد حملات التنكيل بحق العلويين والكرد والدروز والمسيحيين أثراً بالغاً على وحدة النسيج الوطني، وسيسجل التاريخ بعدها أن الجولاني وأردغان ومدرستهم كانوا أبطال المشروع التقسيمي بامتياز كبير.

نخلص إلى نتيجة مؤداها؛ إن سوريا وفق كل المؤشرات قد صارت في خدمة الأجندات التركية، وإن السفارة التركية في دمشق هي أول سفارة تم افتتاحها بعد سقوط النظام؛ على أثر زيارة وزير الخارجية التركي ورئيس الاستخبارات إلى العاصمة السورية، وإن إملاءات من الدولة التركية لرسم مواقف الحكومة الجديدة قد صارت بحكم المؤكدة؛ سيما وإن أردوغان ما انفك يكرر أن المهمة الأساسية التي باتت تلح الآن؛ هي بحسب زعمه مواجهة الإرهاب متمثلاً بداعش وانفصاليي قسد.

فأمام هذا التغول السافر في التدخل في الشأن السوري، ولأن الطريق أصبح ممهداً مع وصول السلطة الجديدة من أجل توظيف صريح لمقدرات الدولة السورية، بحسب مشيئة أنقرة؛ فان السؤال الذي يخطر في بال المراقب، ويدور حول طبيعة موقف دول المحيط العربي وإسرائيل من هذا التطور، وهل سيقبل المجتمع الدولي ودول الاتحاد الأوروبي والأمريكان بهذا الاجتياح الاسلاموي والتركي لعاصمة تقع على مرمى حجر من دولة إسرائيل؟ وهل ستقبل هذه الأطراف العربية والدولية باستبدال نفوذ الإيرانيين الشيعة، بنفوذ الإسلاميين السنة الأتراك الأكثر وزناً وعدداً، والأكثر نزوعاً وتضلعاً في إنتاج وتصدير الإرهاب؟ وللإجابة لابد من التمحيص فيمَ يمكن أن تكون قد تسببت به التغريدات الترامبية الأخيرة والمتعلقة بالموقف الأمريكي حول سوريا، وحول احتمال سحب القوات الأمريكية، في تشجيع أردوغان على المضي عميقاً في تنفيذ الميثاق المللي الراكد في رأسه ورأس حزبه ودولته.

هذه التغريدات التي أثارت جواً من الضبابية السياسية حول توجهات السياسة الأمريكية في الفترة المقبلة فهو من جهة؛ غَمَزَ غداة فوزه بالانتخابات الرئاسية إلى احتمال سحب القوات، ويقول بأن تركيا صارت تملك دوراً مفتاحياً في شكل سوريا القادم، ومن جهة أخرى يصف العملية التركية في سوريا؛ والتي أدت إلى السيطرة على سوريا عن طريق الفصائل بغير الودّية، ثم يقول مع سائر دول العالم: “إنه سيحدد موقفه من الوضع الجديد على ضوء تطورات الموقف من قضايا الأقليات، وحماية المدنيين، ومشاركة المكونات. فأمام هذه المرونة ونقيضها، هل يكون ترامب قد ترك الباب موارباً؟ أو قد يكون أعد فخ صدام حسين نفسه لأردوغان؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى