مانشيتمقالات رأي

سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد

محمود علي

جاء سقوط نظام البعث مدويّاً بعد أن حكم سوريا بالحديد والنار لأكثر من ستة عقود، مارس فيها الاستبداد بكل أنواعه، عبر كم الأفواه ومصادرة الحريات، وحَكَمَ سوريا بقبضةٍ حديدية، طالت جميع فئات الشعب السوري بكل تنوعه. ولعل فترة حكم عائلة الأسد كانت أشد وطأة على السوريين، مارس خلالها كل أشكال القهر والتنكيل بالشعب السوري، وخاصة بعد اندلاع ثورته ضده عام 2011.

إن مشاهد وصور معتقل صيدنايا، كافية للدلالة على مدى إيغال النظام البائد في التنكيل بالسوريين، وربما تتجاوز معتقلات “الجيستابو” النازية خلال الحرب العالمية الثانية. ولا تزال تتوارد صور ومشاهد من السجن تحكي قصصاً مأساوية تقشعر لها الأبدان، حتى الإنسان يخجل من آدميته أمامها. وهناك أقسام من السجن لم يتم الكشف عنها بعد، وربما تضم معتقلين آخرين، فيما توجد سجون ومعتقلات أخرى لم يتم الكشف عنها إلى الآن. كذلك هناك الآلاف من المغيبين ومجهولي المصير، لا يزال البحث عنهم جارياً.

إن سقوط النظام بهذه الصورة الدراماتيكية ودون أي مقاومة تذكر، تكشف بكل جلاء عن سحب حلفائه الدعم عنه، ومساومة القوى الأخرى عليه. فبات معلوماً أن النظام لم يكن يملك أي مقومات عسكرية للصمود أمام زحف قوى المعارضة التي قادتها هيئة تحرير الشام، بل هناك قناعة سائدة بأن معظم الأنظمة في المنطقة هي غير وطنية، ولا تستمد قوتها من شعبها بل من الخارج، وبمجرد رفع الغطاء الخارجي عنها، فإن نسمة خفيفة ستجعلها وكأنها لم تكن، والنظام السوري لم يخرج عن هذا السياق. فالضربة التي تلقتها إيران وحلفاءها بعد أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي، وكذلك تصفية معظم قيادات الصف الأول والثاني والثالث في حزب الله اللبناني، وسحب قواته من سوريا؛ كلها عوامل ساهمت في إضعاف حلفاء النظام السوري، وحتى روسيا قبلت بالعرض المقدم لها بمقايضة رأس النظام السوري مع بعض الانتصارات في أوكرانيا.

اجتماع دول مسار آستانا في الدوحة عشية سقوط النظام السوري (عقد الاجتماع في 7 و8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري) اتخذ فيه قرار إسقاط النظام، واتفقت الدول الثلاث (روسيا، إيران وتركيا) على السماح بخروج رأس النظام آمناً، فيما كانت الاتصالات والمشاورات جارية بين القوى والأطراف الفاعلة في سوريا (الولايات المتحدة، بريطانيا وأيضاً إسرائيل) في ترتيب الأوضاع لما بعد نظام الأسد.

ترك النظام وراءه أزمات سياسية، اقتصادية، عسكرية ومجتمعية عديدة، والخروج منها يتطلب عملاً دؤوباً ومشتركاً ومكثفاً من قبل جميع مكونات وفئات المجتمع السوري، والمؤكد أن طرفاً سياسياً واحداً غير قادر على وضع حلول ناجعة له، تكون كفيلة لنقل سوريا إلى مرحلة البناء وتشكيل مؤسسات ديمقراطية يستطيع فيها الكل التعبير عن نفسه. فرغم أن هيئة تحرير الشام تصدرت المشهد السياسي والعسكري الآن، وحملت عبء إدارة سوريا الجديدة، إلا أنها ستواجه مصاعب عديدة، وإن كانت في المرحلة الانتقالية التي حددتها حتى مارس/ آذار المقبل، فالإرث الهدام الذي خلفه النظام وراءه، يُصَعِّبُ من مهام الجميع، إضافة إلى أن الاستئثار بالقرار لن يفيد حتى الهيئة أيضاً، وهذا ما أشار إليه قائد القيادة العسكرية “أحمد الشرع” في أكثر من مناسبة. فالرجل انتهج خطاباً سياسياً مرناً لأبعد الحدود، وغلبت عليه لغة الجمع وليس التنافر، ما هَدَّأَ نفوس السوريين الذين ملوا الحرب والأزمات، وباتوا يبحثون عن الأمن والأمان والسلم الأهلي والمجتمعي حتى في خرم إبرة.

إلا أن الإشكالية التي تهدد مصير السوريين هو تدخل دولة الاحتلال التركي في شؤونهم الداخلية، ويسود تخوف لدى معظم مكونات الشعب السوري، إلى أن الدور التركي في سوريا سيكون مشابهاً للدور الإيراني في العراق غداة سقوط نظام صدام حسين عام 2003. ويفترض بالإدارة الجديدة أن توازن بين علاقاتها مع تركيا، وبين مصالح الشعب السوري، فالهجوم الذي تشنه تركيا والفصائل المرتزقة التابعة لها على مناطق الإدارة الذاتية منذ بداية عمليات “ردع العدوان”، لم تتوقف نهائياً، وهي تهدف إلى إبادة الشعب الكردي وجميع المكونات المنضوية تحت راية الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، ولم يصدر حتى الآن أي تصريح من إدارة العمليات العسكرية يضع حداً للتدخل التركي السافر في سوريا.

فيما لا تزال المشاورات السياسية على المستويين الإقليمي والدولي مستمرة في نزع فتيل الحرب التي تزمع تركيا شنها على مناطق الإدارة الذاتية، وخاصة على كوباني التي تعد رمزاً للمقاومة على المستوى العالمي. فالولايات المتحدة لعبت – وما تزال – دور الوساطة لفرض وقف إطلاق النار بين قوات سوريا الديمقراطية من جهة وتركيا والفصائل المرتزقة التابعة لها من جهة أخرى، وفشلت كل مساعيها أمام التعنت التركي، ما دفع عدداً من أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى إعداد مشروع قانون عقوبات لفرضها على تركيا، إضافة إلى ظهور مواقف دولية رافضة لأي عمل عسكري ضد مناطق الإدارة الذاتية، فيما أكد القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية الجنرال “مظلوم عبدي” في أكثر من تصريح بأن لهم تواصل مع الإدارة السياسية والعسكرية الجديدة في دمشق، وأنهم في الأيام القادمة بصدد إرسال وفد إلى دمشق للوصول إلى تفاهمات، وكذلك للمساهمة في رسم مستقبل سوريا.

الإصرار التركي على إنهاء أي وجود كردي في سوريا المستقبل؛ يكتنفه الكثير من التساؤلات حول مصير سوريا، فأي محاولة تركية للنيل من الشعب الكردي تعد موجهة ضد الشعب السوري برمته، على اعتبار أن الشعب الكردي يعد جزءاً أساسياً من الشعب السوري، ولن تستقيم الأمور في سوريا دون تمثيل الكرد في سوريا الجديدة، وهو ما تحاول تركيا قطع الطريق عليه.

مقاربات الدول الغربية من الإدارة السورية الجديدة يلفها الحذر والترقب، رغم لقاء العديد من الوفود الأوروبية والأمريكية بـ”أحمد الشرع” وإبداء الأولى الانفتاح على الإدارة الجديدة، وهي بكل الأحوال وضعت شروطاً على التعاون معها، وأولها محاربة الإرهاب.

كل الاعتقاد أن المعادلات السياسية والعسكرية وتوازن القوى في المنطقة؛ يُحَتّمُ على الإدارة الجديدة التعامل مع الوقائع المستجدة على الأرض بعقلانية، بعيداً عن لغة الإقصاء، وفرض لون سياسي وعقائدي واحد على سوريا، والاجتماعات التي عقدتها الإدارة مع عدد من منظمات المجتمع المدني والأحزاب والقوى السياسية في عدة مناطق سورية، وخصوصاً في الساحل السوري ومنطقة السويداء، تبعث على الارتياح، وتبشر بحوار وطني سوري جامع في قادم الأيام، وتقطع الطريق على كل المتسولين على سقوط النظام، من هذا الطرف أو ذاك. فلا يمكن للإدارة الجديدة أن تعيش في جزيرة منعزلة دون التواصل مع العالم الخارجي، ما يجعل من مهمة انتهاج أسلوب الاعتدال وقبول الآخر المختلف سبيلاً لعبور المرحلة الراهنة بنجاح، تمهيداً لمؤتمر وطني شامل، وإعداد عقد اجتماعي جديد يمثل كل السوريين على اختلاف انتماءاتهم، وسن دستور جديد، ومن ثم الوصول إلى انتخابات برلمانية رئاسية.

إن أكبر مهمة تواجهها الإدارة الجديدة هي إنهاء الاحتلالات الأجنبية للأراضي السورية، فمثلما خرجت إيران بكل ميليشياتها وتشكيلاتها الطائفية؛ فإن فرض السيادة على جميع الأراضي السورية لن تكتمل إلا بخروج قوى الاحتلال بكل مرتكزاتها ومسمياتها، ما يجعل من عودة جميع السوريين النازحين واللاجئين إلى ديارهم أمراً يسيراً، رغم أنه استحقاق عاجل أمام إدارة سوريا الجديدة.

كما أن إعادة إعمار سوريا لن يبدأ إلا بعد الوصول إلى توافق سياسي داخلي بين جميع قوى الحراك المجتمعي وممثلي مكوناتها. فالعالم لن يساهم في إعادة الإعمار، وخاصة دول الخليج العربي، إلا بعد استتباب الأمن والاستقرار في سوريا، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا، التي لن ترفع العقوبات إلا بعد رؤيتها تطورات ملموسة على الأرض، وهو ما أعلنت عنه كل القوى الغربية بأنها ستراقب أفعال الإدارة الجديدة.

لن ينجر السوريون إلى حرب أهلية أخرى بعد كل المعاناة والأزمات التي مروا بها طيلة نحو 14 عاماً، والكل لديه قناعة وثقة بأنهم قادرون على انتشال وطنهم من وسط الركام الذي خلفه نظام الأسد البائد وراءه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى