تركيا.. وهم الانتصار في سوريا
محمود علي
بعد نحو شهر من سقوط نظام الأسد؛ لا يزال مصير سوريا برمتها مجهولاً، ومحفوفاً بالمخاطر، ويسود مناخ عام يلفه هواجس وحالة ترقب مشوبة بمخاوف اندلاع حرب أهلية جديدة، قد تقضي على فرحة السوريين برحيل النظام، وتقوض معها فرص إعادة بناء وطنهم.
الأحداث المأساوية التي وقعت في الساحل السوري؛ وما رافقها من مشاهد تقشعر لها الأبدان، زادت من قناعة السوريين؛ أنها إيذان ببدء مرحلة أخرى من الاحتراب والاقتتال، وأن عنوانها الرئيس التصفية والانتقام والقتل على الهوية والانتماء الطائفي والمذهبي، ما يفضي إلى ضياع البوصلة الوطنية، ولتعود الساحة السورية مسرحاً لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، ويدفع السوريين مرة أخرى أكلافها من دماء أبنائهم.
لن نلقي اللوم على أحد في الدفع نحو إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، إلا أن الدعوة التي أطلقها المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، أشعلت فتيل الفتنة النائمة في الساحل، عبر اندفاع بعض الموتورين وراءها، والتهديد بمحاربة الإدارة السورية الجديدة تحت مسميات ومبررات لا تقنع أحداً. بالمقابل انساقت بعض الأطراف الأخرى مدفوعة بنشوة وغرور النصر، أو ربما كانت تنتظر الفرصة التي جاءتها من خامنئي، لتنفث سمومها في حب الانتقام من الآخر الذي تعتبره عدواً لها، وتستغل فائض القوة لديها ضد خصومها المفترضين تحت غطاء “الشرعية الثورية”، وتحت يافطة “اعتقال وتصفية أنصار النظام السابق”، وتقع في الأخطاء التي حفرها لها الغير، وتنجر إلى ذاك المستنقع الآسن، وتتحرك كجماعة وليس العمل بمنطق الدولة وحماية القانون والأمن والسلم الأهليين، ما زاد من حجم الانكماش المجتمعي على مستوى سوريا، رغم التفاؤل السائد قبلها؛ وكأنها قد تنصلت من عهودها ووعودها السابقة التي قطعتها القيادة الجديدة في تغيير آليات العمل السابقة، واحتواء كامل الفسيفساء المجتمعي السوري.
القضية الثانية التي تعكر صفو الفرحة الوطنية السورية، وتهدد بنسف كل منجزات السوريين، يتمثل في العدوان التركي المستمر على مناطق شمال وشرق سوريا والإدارة الذاتية وخصوصاً ضد الكرد، ولعله يمثل الخطر الأكبر على حاضر ومستقبل سوريا؛ إن استمر بهذه الوتيرة والأسلوب، ويجعل من سوريا ساحة خلفية لتركيا لتنفذ من خلالها مشاريعها التي طالما عجزت عن تنفيذها في السابق.
ففي حين كانت فصائل المعارضة تزحف نحو دمشق، وتحرر المدينة تلو الأخرى، انبرت تركيا والفصائل التابعة لها إلى شن هجماتها الوحشية على مناطق الشهباء ومنبج، في محاولة للسيطرة على المرافق والمنشآت الحيوية في سوريا، مثل سد تشرين وجسر قره قوزاق الذي يربط شمال وشرق سوريا بغربها، بالتزامن مع إطلاق التهديد تلو الآخر بشن عملية برية على مدينة كوباني.
الثابت أن تركيا تجد نفسها المتضرر الأول من سقوط النظام البائد، وتسعى بشتى الوسائل إلى نشر الفوضى واستدامة الحرب، لجني مكاسب سياسية وعسكرية. فالقرار الذي اتخذته القيادة السورية الجديدة بحل جميع الفصائل العسكرية وضمها إلى جيش سوري تحت سقف وزارة الدفاع، رفضته تلك الفصائل التابعة لتركيا، وهذا الرفض يعبر بشكل ما عن الموقف التركي الرافض لحل تلك الفصائل، لطالما استخدمتها ورقة بيدها في حروبها المختلفة في المنطقة والعالم. بالمقابل أبدت قوات سوريا الديمقراطية استعدادها لتشكل هي نفسها نواة لجيش سوري جديد، وهي الآن في حالة تفاوض مستمرة مع القيادة السورية الحالية، وفق تأكيد الطرفين، والكل يعتقد أن الطرفين سيتوصلان إلى جملة من التفاهمات والاتفاقيات حول وضع آليات معينة للحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسيادتها، وربما أن أي توافق وطني بين قوات سوريا الديمقراطية والقيادة الجديدة لا يروق لتركيا، وستسعى بكل قوتها إلى قطع الطريق أمام الطرفين للوصول إلى أي تفاهمات من شأنها أن تعيد اللحمة الوطنية لسوريا، وتستعيد معها قوتها العسكرية والسياسية.
الدور الأمريكي في لجم تركيا لشن هجوم على مدينة كوباني كان لافتاً إلى حد ما، وبذلت هي وبعض دول التحالف الدولي جهوداً في فرض وقف لإطلاق النار على كامل مناطق شمال وشرق سوريا بين قوات سوريا الديمقراطية وتركيا، وعدم السماح بتغيير خارطة السيطرة الحالية. بالمقابل العروض التي طرحها القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” في جعل كوباني منطقة منزوعة السلاح إضافة إلى مدينة منبج أيضاً، وجد تجاوباً كبيراً لدى المجتمع الدولي، وخاصة في واشنطن وباريس وبعض الدول الأوروبية، وأفضى إلى تشكيل رأي عام دولي ضاغط على تركيا قلصت – نوعاً ما – من الاندفاعة التركية في شن هجوم بري على كوباني، إلى جانب أن للمدينة – أي كوباني – رمزية عالمية من حيث أنها المدينة الأولى التي ألحقت الهزيمة بتنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا.
إلا أن البعض يتجاهل المقاومة التي أبدتها قوات سوريا الديمقراطية في تصديها لهجمات المرتزقة على كل من سد تشرين وجسر قره قوزاق، فالمعارك التي دارت رحاها خلال الفترة الماضية في محيط السد والجسر، ربما هي الأشد والأعنف منذ بداية تركيا شن هجماتها على مناطق روجآفا وشمال وشرق سوريا، حيث زجت تركيا بكل قوتها العسكرية البرية والجوية، وكذلك مرتزقتها في المعركة، بهدف السيطرة على السد والجسر، وبالتالي التمدد للوصول إلى عين عيسى؛ وفرض حصار مطبق على كوباني، وتهديد مدينة الرقة أيضاً. الأحلام التركية تحطمت على تلال سد تشرين ومحيط جسر قره قوزاق، رغم أن الهجمات لا تزال مستمرة، إلا أن حالة من اليأس سيطرت على المرتزقة، وتركيا تمارس ضغوطاً كبيرة لمواصلة القتال رغم نيتهم الانكفاء والهروب.
الولايات المتحدة ومن خلال الضغوط الممارسة على تركيا داخل أروقة الكونغرس والخارجية الأمريكية، والتلويح بورقة العقوبات القاسية عليها في حال شنها أي هجوم على كوباني، ومن ثم تمركز قوة عسكرية أمريكية داخل مدينة كوباني، حدت بتركيا لأن تتراجع أكثر من خطوتين للوراء، وتخفف من لهجة تهديداتها المستمرة، وقطعاً هذا لا يعني أن احتمالية شن الهجوم قد انتفت أو ألغيت نهائياً، بل إن موازين القوى قد تغيرت في غير الصالح التركي.
ضمن مساعيها لإغلاق كل مساحات التحرك أمام الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية؛ لجأت تركيا إلى محاولة دفع الإدارة الجديدة في سوريا للتصادم مع (قسد)، إلا أنها لم تفلح في الإيقاع بين الطرفين، بل تسود قناعة لدى الطرفين بأن الحوار هو أفضل السبل لبناء سوريا الجديدة.
لا توجد فرص كثيرة أمام تركيا لتصعيد الموقف أكثر ضد قوات سوريا الديمقراطية في هذه المرحلة الانتقالية في سوريا، لا محلياً ولا إقليمياً ولا حتى دولياً، فالمناخ العام يشير إلى خفض التصعيد، ووقف كل الأعمال القتالية على الجغرافيا السورية، ولم تعد هناك “ثورة”، حسب توصيف القائد العام للمرحلة الانتقالية “أحمد الشرع”، بل يتطلب الوضع الشروع في تهدئة الأوضاع، والبدء بمرحلة البناء والإعمار. وليس لدى السوريين القدرة على تحمل أعباء حروب أخرى إضافية. فحتى عناصر الفصائل المرتزقة التابعة لتركيا باتت تفر من ميدان المعارك، وتخطط للعودة إلى مناطقها الأصلية التي نزحوا منها، وهو ما يحبط كل المخططات التركية في شن هجمات أخرى على مناطق شمال وشرق سوريا، ويفرغ مشاريعها في التغيير الديمغرافي في المناطق التي تحتلها.
تعامل تركيا بمنطق المنتصر في سوريا، ما هو إلا دعاية ممجوجة ولا طائل منها، والوقائع تؤكد أنها كانت بعيدة عن تصور سقوط النظام، بل كانت تراهن على بقائه في إقامة أفضل العلاقات معه، وهي توهم محيطها بأنها اللاعب الأقوى في سوريا، في حين أن ما يجري على الأرض يدحض هذا الادعاء، حيث لا تزال القوى العظمى لها الكلمة العليا في توجيه التطورات الراهنة واللاحقة، إضافة إلى أن الدول العربية وعلى رأسها السعودية، مصر والإمارات لها دور بارز في سوريا ما بعد نظام الأسد، وهي الرافعة الأساسية في دعم الجهود المحلية والدولية في ترسيخ الاستقرار والأمن، فيما هذه البيئة لا تتوافق مع التطلعات والطموحات التركية مطلقاً.