مانشيتمقالات رأي

في الحوار الكردي – الكردي والتوجه إلى دمشق

محمود علي

يدور نقاش واسع، منذ أن سقط نظام الأسد، واستلمت القيادة السورية الجديدة السلطة في دمشق، حول ماهية وكيفية الوفد الكردي المفترض له أن يتوجه إلى دمشق لمناقشة القضية الكردية والوضع السوري بشكل عام، والوصول إلى تفاهمات مشتركة، تفضي إلى وضع اللبنة الأولى في بناء سوريا الجديدة.

لعل أحياناً كثيرة، الواقع يبدد الكثير من الأمنيات والتوقعات، فالمزاج الشعبي الكردي يشير إلى ضرورة تشكيل وفد كردي قوي، يضم إلى جانب الحركات والأحزاب الكردية، أيضاً الشخصيات الدينية والوطنية المستقلة والمثقفين والمرأة والشبيبة. ويركز الشارع السياسي الكردي على الدفع باتجاه حصول توافق بين الأحزاب الكردية، إن كانت من كتلة أحزاب الوحدة الوطنية الكردية، أو المجلس الوطني الكردي، وترك الخلافات الحزبية جانباً، والذهاب إلى دمشق ببرنامج مشترك، يضعها أمام استحقاقات مصيرية حيال حل القضية الكردية.

ربما يغيب عن بال الكثير أن أي وفد يمثل الكرد وقضيتهم في دمشق، لا يمكن له أن يحظى باهتمام أي طرف داخل سوريا وخارجها، إن لم يكن يملك القوة العسكرية والسياسية، ويفرضها كورقة قوية على طاولة الحوار، ويحقق معها نوعاً من التوازن، وبالتالي ينتزع حقوق الكرد ولا يستجديها، لطالما أن الانتزاع هي القاعدة الأساسية في أي حوار أو تفاوض بين فرقاء مختلفين.

بالتأكيد لن يجد الكرد موقعاً لهم في سوريا الجديدة، إن لم يضعوا على سلم أولوياتهم دعم قواتهم التي ما تزال تقاتل في كل الجبهات. ففي هذه المسألة الموضوع ليس ترفاً وخياراً يمكن استبداله بآخر، بل هو شرط حتمي لإمكانية وصول ممثلين كرد إلى دمشق، وطرح قضيتهم بكل قوة وشفافية، ولن تفتح دمشق أبوابها لهم إن لم يتمسكوا بقوة بهذه الورقة. من يراهن على غير ذلك؛ فهو واهم، ولا يدرك أبجدية السياسة التي تعتمد بالدرجة الأولى على موازين القوى. فما يحققه مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية من انتصارات في الميدان، هي الورقة التفاوضية الأقوى الآن وغداً في أي حوار مع دمشق وغيرها من القوى داخل سوريا وخارجها.

إن التسريبات عن لقاء تم بين قيادة قوات سوريا الديمقراطية وقائد العمليات العسكرية “أحمد الشرع” في مطار “الضمير” القريب من دمشق، هو بحد ذاته خطوة في الاتجاه الصحيح نحو بناء الثقة بين الطرفين، حتى وإن لم تصدر أي معلومة بخصوص فحوى اللقاء، وهو لا يعد نقل الحوار من الجانب العسكري إلى الجانب السياسي، بل من المؤكد أنه مقدمة لفتح الطريق أمام إطلاق حوار سياسي شامل، وربما يضم أطرافاً سورية أخرى.

الكرد وعلى مستوى حركتهم السياسية قادرين على صياغة برنامج وطني لحل القضية الكردية ضمن الإطار السوري، إلى جانب وضع مقترحات مبادئ أساسية يمكن أن تساهم في بلورة مشروع توافق بين السوريين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والمذهبية والإثنية، تعبر عن رؤية واقعية لمستقبل سوريا. فطبيعة الكرد الثقافية والسياسية لا تستثني أحداً من التمثيل، ولا يعيرون اهتماماً لمسألة “الأقلية” و”الأكثرية” بأي حال من الأحوال، وهذه الطبيعة التي تتميز بقبول الآخر المختلف معهم فكرياً وسياسياً ودينياً ومذهبياً، هي بحد ذاتها تشكل نقطة جذب واستقطاب لكل القوى السياسية والشعوب الأصيلة في المجتمع السوري المتعدد الأطياف والانتماءات، وهو ما يبحث عن السوريون في ظل بروز بعض الدعوات الشاذة بالاستئثار بالسلطة، وتهميش باقي الشعوب الأخرى، وتعرضها للعنف غير المبرر له في كل الأحوال.

تعمل كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين في روجآفا، عبر إقناع المجلس الوطني الكردي بتلبية دعوة قائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال “مظلوم عبدي” والبدء بحوار جاد ومسؤول مع أحزاب الوحدة الوطنية الكردية؛ للوصول إلى صيغة موحدة يمكن عبرها مخاطبة دمشق، وطرح حل القضية الكردية في سوريا. الإشارات الأخيرة الصادرة من بعض قيادات المجلس الوطني تبدو إيجابية ومشجعة، وربما جاءت على خلفية الأنباء التي أفادت بين روجافا وهولير، مع وعود بعقد مؤتمر وطني كردستاني على مستوى الأجزاء الأربعة لكردستان، وهي تبدو دعوة ملحة في ظل التطورات المصيرية العاصفة بالمنطقة وكردستان.

لا بد من إجراء حوارات مفتوحة بين جميع أطراف الحركة السياسية الكردية، ووضع الشارع الكردي في صورة التقدم الذي تحرزه، وليس عقد الاجتماعات في الغرف المغلقة، وبعيداً عن الإعلام. فقد أثبتت التجارب السابقة عن خيبة أمل كبيرة، وفقدان الثقة بتلك الحوارات إن لم تجرِ بشكل مكشوف وعرض النتائج أمام الشعب، ومشاركته في مناقشة تلك التفاهمات والتوافقات. ويتساءل الكثيرون ما مدى جدوى تلك التفاهمات إن لم تترجم على أرض الواقع، وما الضير في أن يكون الكردي على بيّنة منها ما دام الآخرون غير الكرد يعلمون بأدق تفاصيل تلك الحوارات والتفاهمات. ويعتبر هذا حقاً مشروعاً لهم، على العكس من ذلك، لن يأخذ أي اتفاق أو تفاهم شرعيته إن لم يحظى بدعم وموافقة الشعب، وهذه مسألة هامة يتوجب أن يأخذها كلا الطرفين المتحاورين بعين الاعتبار.

إن وضع أي شروط على الحوار، تعتبر وضع العصي في عجلاته والتهرب من استحقاقاته، لكن المؤكد أن شروط إنجاح أي حوار يتطلب توفر شروط موضوعية له، وأولها الثقة والعمل كفريق واحد، ومشاركة الجميع في النقاشات للوصول إلى صيغة وهيكلية قادرة على تمثيل الشعب الكردي ليس في دمشق فقط، بل في جميع المحافل الدولية والإقليمية.

كما يساور البعض مخاوف من خشية تكرار تجربتي الهيئة الكردية العليا والمرجعية الكردية الفاشلتين، ومن ثم انقسام الشارع السياسي الكردي بينهما، حيث ذهب أحد الأطراف للتماهي مع مشاريع غريبة، أقل ما يقال عنها حتى الآن أنها معادية للحقوق والتطلعات الكردية في روجآفا وسوريا. إن تمسك بعض الشخصيات في المجلس الوطني الكردي بالإئتلاف السوري، ينسف الجهود في إطلاق الحوار الكردي – الكردي، ولا يُفهم معنى وفائدة هذا التمسك، إن كان الإئتلاف نفسه قد وصل إلى مرحلة التشظي والانحلال وفرط عقده، وحتى الإدارة السورية الجديدة لا تعترف به أيضاً.

الأمور في سوريا الجديدة تتسارع أكثر مما هو متوقع، وكل القوى والأطراف الإقليمية والدولية تعمل على إعداد تصورات عاجلة بخصوص مستقبل سوريا. زيارة الوفود الأجنبية والعربية دمشق، ورغم أنها تجسُّ نبض القيادة الجديدة، إلا أنها في ذات الوقت تحاول توجيه دُفَّتها نحو الوجهة الصحيحة. وما ترشح من تلك الزيارات، وخاصة زيارة وزيري خارجية كل من فرنسا وألمانيا، وحديثهما المطول عن الكرد ودورهم في رسم مستقبل سوريا، وتأكيدهما على ضرورة إشراك الكرد وباقي الشعوب في إدارة سوريا، يلقي مهمة عاجلة على عاتق الحركة الكردية، ما يفرض عليها إدراك أنها تحظى بدعم دولي كبير، وعليها أن تتجاوب مع تلك الدعوات الإيجابية، وتسارع إلى تشكيل هيكلية ممثلة لهم. ويستنبط من تصريح وزيرة الخارجية الألمانية أن مؤشر تغيير القيادة السورية الجديدة لذهنيتها وإيديولوجيتها السابقة هو بدء حوارها مع قوات سوريا الديمقراطية، ولعله يحمل دلالات كبيرة ومغزى عميقاً على مدى إيلاء الدول الغربية لدور الكرد في سوريا حاضراً ومستقبلاً، ما يستدعي أن يقابله إبراز صورة ناصعة للكرد أيضاً.

على الكرد وحركاتهم السياسية التحرر من عقدة الدونية التي رافقتهم طيلة تاريخ نضالهم وكفاحهم من أجل حل قضيتهم العادلة، فاليوم احتلت القضية الكردية أجندات معظم دول العالم، وينظر إلى كفاحهم ضد الإرهاب باحترام كبير، ما منحهم مكانة مرموقة لدى جميع المؤسسات الدولية الفاعلة في مجمل الأزمات العالمية. ومحاولات دولة الاحتلال التركي سد كل الأبواب أمام الكرد باءت بالفشل الذريع، ولم يعد أحد يكترث للادعاءات التركية الممجوجة، التي تحصر كل مطالبها بإبادة الكرد، وطمس كل محاولاتهم في الحصول على حقوقهم المشروعة والعادلة.

لدى الكرد مهام وواجبات عاجلة غير قابلة للتسويف والتأجيل، وفي مقدمتها توحيد صفوفهم، والتوجه نحو دمشق مستندين إلى قوتهم العسكرية (قوات سوريا الديمقراطية) والسياسية (الإدارة الذاتية)، فهم القوة الأكثر اتزاناً واعتدالاً، إضافة إلى امتلاكهم أوراق قوة أخرى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى