مانشيتمقالات رأي

رأي حول مصير الدولة السورية وفي الحدث السوري المستمر

كمال حسين

يشهد اليوم السوريون ومعهم شعوب المنطقة والعالم فصول تواتر التداعيات المتصلة بسقوط نظام بشار الأسد، وحلول جماعة الجولاني مكانه في سدة حكم الدولة السورية، حيث ينتشر هؤلاء بأعلامهم السوداء

وجوههم الملثمة في العاصمة دمشق، وفي باقي المدن والبلدات، وتنتشر معهم إدلب بقضها وقضيضها في بسطات تملأ الشوارع والساحات، تمتهن الاتجار بالبضاعة التركية الرخيصة.

وبالتأمل في معاني ودلالات هذا الحدث الكبير، يستطيع المتابع أن يجزم بأن السوريين لم يختبروا بولوجهم هذا المنعطف نموذجاً واحداً من أنماط نظم القهر والتعسف والاستبداد؛ بل لا شك أنهم كانوا ومازالوا يصارعون متلازمة الأمراض في النزعة الدولتية بكل مساوئها وأشكالها.

فالنظام الذي سقط قد أسقط معه دولته التي جاء بها، وحاول فرضها، وترسيخ قيمها في البناء الفوقي للمجتمع، كما تجذيرها في ثقافة الشعب السوري منذ مطلع ستينات القرن الماضي، وجماعة الحكم الجديد الذين لم يرتقوا بعد بسلطتهم إلى صفة النظام، فلا بد أنهم في محاولاتهم الإطباق على تَرَكَةِ النظام السابق المتعلق بشكل الدولة والمجتمع؛ قد أصبحوا في وضع من يحث الخطى في الطريق إلى تسويق نمطه الخاص للنظام والدولة، والذي يعبر عن فهمه لها، وطموحه بها هو الآخر.

وبالعودة إلى تناول النزوع الدولتي في ظروف نشأته، وفي أخطاره، ودواعي الاعتلال في بنيته؛ فاليقين في المقاربة يمضي إلى حقيقة أن الدولة رديف لمعنى التسلط والعنف، ولازمة من لوازم التشكل الطبقي في مجتمع الهرمية الطبقية المتهيكل وفق قيم الجنسانية الأبوية والقوموية، وعلى هذا النحو يمكن تبويب الاعتلالات الدولتية التي نحن بصددها بضروب ثلاث.

الدولة المركزية والدولة القوموية ثم الدولة الأيديولوجية

هذا ولئن كانت هذه الصيغة الأمراضية الآنفة تترافق في الغالب مع غياب الديمقراطية، أو مع اعتماد الشمولية الاستبدادية في نظام حكمها؛ فلا يجوز أن ننسى وجود نماذج الدولة المدنية والديمقراطية العلمانية، والتي تتحضر مجتمعاتها إلى الانتقال من صيغة دولة الأمة، إلى صيغة التجمعات والاتحادات الكبرى العابرة للقوميات، كما هو الحال في دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا وغيرها.

ومما يجدر ملاحظته أن الدولة تزداد اعتلالها بقدر ما يجتمع فيها من الخصائص الثلاث، المركزية فالقوموية فالأيديولوجية، فبينما كانت دولة الاتحاد السوفيتي السابق مركزية أيديولوجية عابرة للقوميات أي غير قوموية؛ نجد أن دولة البعث الصدامية مركزية وقوموية، والشيء عينه في سوريا حافظ الأسد وفي عهد ابنه بشار؛ تحمل الصفة المركزية بل شديدة المركزية، بالإضافة إلى القوموية، وفي كلا الحالتين السورية والعراقية تتميز بالشمولية الاستبدادية، إلا أنه من نافل الإشارة أن أخطر نماذج الدولتية تهديداً للسلم والاستقرار داخل مكوناتها، وانشغالاً بانتهاج العنف وإشعال الحروب؛ هي دولة المركز الواحد والقومية المهيمنة الواحدة، وذات الهوية الأيديولوجية كما هو الحال اليوم بدول الأحلام الإمبراطورية، الإسلاموية في تركيا وإيران.

نسوق هذا الاستهلال للتوضيح بأن الدولة المركزية القوموية قد فشلت في إنجاز برامج التنمية الاجتماعية الرامية إلى تطوير شعوبها، ولم ينتج عنها غير تعميم الفقر والتخلف، وبالاستناد إلى تغليب الهوية القومية والطابع الشمولي في توجهاتها العامة؛ فقد فشلت أيضاً في تحقيق أي من مهامها الوطنية التي من بينها المحافظة على تماسك النسيج الاجتماعي بين أطيافها، والذي كان من نتيجته إنتاج الحروب الأهلية والتهديد الدائم لعوامل الوحدة الوطنية.

وإذا كان كل ما تقدم يندرج تحت مسمى محاولة في توصيف العوامل الإمراضية في الأصناف والظواهر الدولتية، ولأنها توصيفات معروفة ومتداولة في الأدبيات السياسية، وفي اهتمامات الفكر السياسي، ولدى وسائل الإعلام؛ إلا أن نمط قندهار الذي يسوقه أردوغان ويبتغيه كدرعٍ لحماية مصالح السوريين، وأداة تعنى بمنع تقسيم بلادهم، والأنكى من ذلك لمحاربة الإرهاب بهم. فـ للحق والموضوعية هذا نموذج لا يوجد له تصنيف في القاموس السياسي، ولا يحتمل وجوداً مقنعاً قابلاً للحياة، إلا عند نوعين من البشر رأس أردوغان الأول، والجماعة التي ما تزال تنتظر طيور الأبابيل لتغيير معادلات الكون، هم الثاني.

ولأن السوريين الذين حلموا بانزياح ظلام دولة القهر والاستبداد القوموية الشمولية، كان حظهم عاثراً هذه المرة لسببين، الأول موضوعي ومرتبط بديالكتيك الحياة الذي يربط بين الظواهر ومسبباتها؛ حيث يندر وقف هذه القاعدة أن يخلف المسخ إلا مسخاً آخر أشد مسوخية منه، والثاني، قَدَرُ السوريين الذي جعل جغرافيتهم البشرية على تخوم الدولة العثمانية، وضمن المجال الحيوي لخيال الساسة الأتراك الذين دأبوا على استخدام صلة الدين، وعلى مر الأحقاب، بنقل ضحالتهم وأحقادهم التي درجت على العبث بمصير شعوبنا.

نعم، هو قدر ساخر، ومشهد سريالي بامتياز أن تصبح تجليات انتصار الثورة السورية تتمثل بولادة إمارات إسلامية سيكون من أولوياتها متابعة الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، والتصدي لقوى الإرهاب المتمثل بوجود قوات سوريا الديمقراطية وبمشروعها الديمقراطي الحداثوي. نعم مشهد مضحك مبكي لا يصح تجاوزه أو القفز من فوقه، ولا مبرر لأي قوة أو حركة سياسية وطنية سورية غض الطرف عن مخاطره، فسوريا اليوم دولة محتلة، وخيارات شعبها ونخبها مُصادَرة من قبل محتلين مقيمين في أنقرة.

المعركة بين قوى الثورة الحقيقية، قوى الحداثة والديمقراطية، وبين خصومها من مفرزات وتشظيات الدولة المركزية القوموية الاستبدادية، على شكل سوريا ضمن خريطة الدول؛ معركة مازالت مستمرة وفي أوجها، وأن كل ما تشهده الساحة السورية ليس أكثر من طور أو عتبة جديدة من أطوار الصراع على وجود وهوية كيان سوريا وشعبها، وأن دواعي اليقظة والحذر مازالت تحتفظ بموجباتها، حيث تقول الوقائع “إن أوجاع المجتمع الفسيفسائي السوري، والتحديات التي تواجه وحدته كبيرة بما لا يقاس في مناخ مازالت تحكم ذهنية الكثيرين فيه أحلام الفتوحات والسبي والغنائم، ويفهم أن دفع الجزية وهم صاغرون؛ ترتيب ينم عن عبقرية، وعلامة تسامح تجعله يصلح لإدارة المجتمعات في محيط دولي وإقليمي تنتعش برامج استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة أزماته وفي نمط حياته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى