أوجلان بين الحرية والقضبان
محسن عوض الله
على مدار الساعات الماضية، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي شائعات تداولها البعض بشكل مكثف حول وجود قرار تركي بالإفراج عن الزعيم الكردي “عبد الله أوجلان” المعتقل منذ أكثر من ربع قرن في جزيرة إيمرالي.
زعم النشطاء الكرد الذين تداولوا الخبر بكل فرحة وسعادة أنه سيتم الإفراج عن أوجلان بنهاية الشهر الجاري، وتحويل بيته لسجن، بمعنى أنه سيبقي خاضعاً داخل منزله للإقامة الجبرية!.
فرحة الرفاق والأصدقاء ممن تناولوا هذا الخبر ربما ترجع لرغبتهم في كتابة خبر أو معلومة عن أوجلان بعيداً عن سياق السجن الإنفرادي، والمؤامرة الدولية، والمعاناة والحرمان من الحقوق التي تعرض لها الزعيم الكردي على مدار أكثر من ربع قرن.
ربع قرن، ولم يعرف الكثيرون عن أوجلان سوي المعاناة والألم والشائعات حول المرض وأحياناً الوفاة، وبالتالي كان طبيعياً أن يتم تداول الخبر أو الشائعة على نطاق واسع، أملا في واقع مختلف قد يحمله أوجلان ذو الإقامة الجبرية بعيداً عن أوجلان صاحب الحبس الانفرادي.
ولكن هل هناك فرق بين أوجلان في الحالتين؟ هل وضع أوجلان تحت الإقامة الجبرية ستمنحه مميزات أكثر عن وجوده في السجن الانفرادي؟.
هل وجود أوجلان في بيته تحت إقامة جبرية؛ لا يرى أو يلتقي أو يتصل سوى بمن تسمح لهم السلطات التركية، سيختلف عن أوجلان في إيمرالي، الذين لا يرى ولا يلتقى ولا يتواصل سوى بمن تسمح لهم الدولة التركية؟ وبشكل نادر تماماً.
الحقيقة أن الفرق قد يكون في وجود رعاية صحية أكثر في الإقامة الجبرية عنها في سجن إيمرالي، خاصة أن الرجل تجاوز السبعين من عمره، ويحتاج لمن يرعاه صحياً وإنسانياً.
أما على المستوى السياسي والنضالي، فإذا نظرنا للأمر بشكل مجردٍ بعيدٍ عن العواطف أو المشاعر؛ فإن اعتقال أوجلان الذي أرادت به تركيا قتل القضية الكردية عبر إخفاء زعيمها كان سبباً مباشراً في التعريف بالقضية الكردية على مستويات أوسع بكثير مما كان يخطط له أوجلان نفسه.
الاعتقال والمؤامرة الدولية التي واجهها أوجلان، كانت سبباً مباشراً للتعريف بالرجل وقضيته ومن وراءه قضية الشعب الكردي الذي يمثله.
خلال سنوات الاعتقال التي تجاوزت ربع قرن، كان أوجلان ومازال الرمز الأبرز للمعاناة الكردية المستمرة منذ عقود.
قضية أوجلان كانت وما تزال هي التجسيد العملي لواقع الكرد المؤلم حول العالم، حيث الحرمان من أقل الحقوق، والإخفاء العمدي، والمقابر الجماعية، والقتل على الهوية.
ربما لم يتعرض شعب لمعاناة واضطهاد مثلما تعرض الكرد على مدار تاريخهم، كما لم يتعرض تاريخ وحاضر شعب للتشويه مثلما تعرض الكرد.
أوجلان الذي وصفوه بالانفصالي المتمرد الملحد، واستباحوا إخفاءه واعتقاله لأكثر من ربع قرن؛ هو نفسه الشعب الكردي الذي استهدفوه على مدار عقود بالحروب والمجازر، هو نفسه الشعب الذي مازالوا يتآمرون عليه، ويحتلون أرضه، ولا تتوقف حروبهم ضده، ولا تهديداتهم بقتله ودفنه في أرضه إن لم ينكسر ويستسلم.
سنوات الاعتقال والمؤامرة، صنعت من أوجلان النسخة الأفضل، نسخة المقاوم الفيلسوف الذي يحارب بقلمه وليس سلاحه وكفي بالقلم من سلاح.
أخرج أوجلان على مدار سنوات الاعتقال مشروعه الفكر العظيم “الأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب” الذي يقدم رؤية مختلفة لتاريخ وأزمات شعوب الشرق الأوسط، وكيفية الوصول لحالة من الاستقرار في تلك المنطقة التي أحرقتها الحروب والصراعات الدينية والعرقية والطائفية على مدار عقود.
لم يغب أوجلان طوال سنوات اعتقاله التي تجاوزت ربع قرن عن الواقع الكردي، وكان حاضراً بفكره وكتاباته في أذهان الكرد وعقولهم، وفعالياتهم التي لم تتوقف دفاعاً عنه ودعماً لصموده وطلباً لحريته.
تأثير أوجلان على المشهد الكردي رغم طول فترة اعتقاله، لا ينكره ذو عينين، فهو صاحب الحضور الأقوى رغم الغياب، هو بطل كل مشهد، ومرجع كل موقف، هو الأكثر تأثيراً ونفوذاً في الواقع الكردي، هو القائد الذي يشعر الجميع بوجوده، ويتعايشون مع أفكاره على أرض الواقع.
كما أخذت قضية أوجلان أبعاداً عالمية، وتحول الرجل لرمز إنساني وسياسي عالمي لمعتقلي الرأي حول العالم، وانتشرت أفكاره وآراؤه في مساحات مختلفة من الكرة الأرضية، وتشكلت لجان من كل الجنسيات والقوميات للدفاع عن حرية أوجلان وحقوق الشعب الكردي.
هذا التأثير الكبير الذي صنعه أوجلان في نفوس أنصاره ومؤيديه، وعموم الشعب الكردي، وأنصار الحرية والديمقراطية حول العالم؛ رغم غيابه وإخفائه عن المشهد منذ أكثر من ربع قرن؛ يطرح تساؤلاً هاماً، هل تحقق أهداف تركيا من المؤامرة الدولية على أوجلان؟ أم كانت المحنة التي أرادوها للشعب الكردي ولأوجلان نفسه منحة فتحت آفاقاً جديدة من النصر والتمكين للكرد وقائدهم؟
لست أهدف من السؤال، الحديث عن مميزات الاعتقال وفوائده وتبريره، بل عن فشل المؤامرة الدولية، ومخطط تركيا في تحقيق أهدافها، وقدرة أوجلان وصموده التي صنعت من المحنة منحة.
بالعودة للشائعات عن إطلاق سراح أوجلان نهاية الشهر الجاري؛ وهو كلام يمكن ربطه بتصريحات التحالف الحاكم في تركيا تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي حول الإفراج عن أوجلان وإلقائه خطاباً في البرلمان التركي، مقابل حل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه.
ما يثير المخاوف هو أن الحديث عن حرية أوجلان وإطلاق سراحه؛ ارتبط بتصاعد التهديدات ضد الكرد، والحديث عن عملية عسكرية تستهدف إخضاعهم، وإسقاط الإدارة الذاتية من باب أن تركيا لن تقبل بتقسيم سوريا.
ما أُدْرِكُهُ جيداً أن تركيا التي تعادي الكرد ولا تقبل بأي حقوق أو إنجازات ملموسة للكرد سواء في تركيا أو سوريا أو حتى كوكب المريخ، وربما كوكب بلوتو الذي اختفي من المجموعة الشمسية؛ لن تمنح الحرية للزعيم الكردي الذي تصنفه وجماعته بـ “الإرهابي المتمرد” دون مقابل!
الحديث عن حرية أوجلان في هذا التوقيت بالذات يثير المخاوف أكثر من يشيع التفاؤل، فمن قتل الكرد ومازال مصراً على قتلهم لن يمنح زعيمهم الحرية بهذا السهولة.
هناك فرق كبير بين الحرية التي يتمناها الكرد لزعيمهم، وتلك الحرية المشروطة التي يتم الترويج لها في الدوائر التركية، ولو خيرت قطاعاً كبيراً من الكرد بين حرية أوجلان واعتقاله لفضلوا بقاءه معتقلاً على الخروج وفق الاشتراطات التركية.
في النهاية، على مدار ربع قرن استطاع أوجلان أن يبقي حراً طليقاً بأفكاره وفلسفته رغم القيود التركية، ولكن الخوف أن يكون إطلاق سراحه وفق التسريبات التركية هو القيد الذي لن ينفك عنه، ويلجم أفكاره، ويجعله يخسر ما حققه من إنجازات طوال فترة اعتقاله..