بين التقلص الإيراني والتمدد التركي أين الدور السوري والعربي؟
كمال حسين
أخيراً سقط نظام الأسد، وتحقق حلم أردوغان بالوصول إلى دمشق فاتحاً ومحرراً، وصار بوسعه أن يؤم المصلين في مسجد بني أمية الكبير متى ما شاء، كما رفرف العلم التركي، واجتازت العملة التركية والبضائع التركية المعابر مؤذنة عن ولادة الولاية العثمانية الإسلامية الأولى في الألفية الثالثة من دمشق، حيث يتوج فيها أيضاً الأصولي الجهادي أحمد الشرع والياً عثمانياً وأميراً لإمارة إسلاموية تعد الأولى في زمن الثورات العلمية، واعتماد برامج الذكاء الصنعي، والحديث عن بدء السياحة إلى الفضاء.
وإلى ذلك يمكن القول “مع معمعان الزلازل الكبرى التي تشهدها المنطقة ثمة وقائع كبرى، وتطورات قد حدثت وماتزال تتوالى فصولها”، يأتي في رأسها انكفاء الدور الإيراني خطوات عديدة إلى الخلف ليحل الدور التركي بديلاً عنه في قمرة القيادة في عربات قطار الجهاديين الذي يُعنى برفع راية الإسلام الجهادي، ومن ثم في مواجهة الشيطان الأكبر، ولجم ما باتت تردده أنقرة عن خطر إسرائيل وعملائها من الانفصاليين الكرد في شمال شرق سوريا، وعلى تربة هذه الحجج والشعارات جاءت النجاحات التركية الأردوغانية المؤقتة على المسرح السوري، كما نمت التطلعات التركية بقصد تطويع الحالة السورية لتحقيق أجندات استراتيجية ثلاث، أمنية واقتصادية فقوموية أيديولوجية.
أما كيف يمكن تقصي الروائز لكل واحدة من تلك الأجندات، فما يحمل دلائل حادة عن حجم التوغل التركي في النشاطات الأمنية لحكومة الشرع المؤقتة؛ هو اكتظاظ العاصمة السورية خلال أقل من شهر من عمر هذه الحكومة بأكثر من أربعين ألفاً من الكوادر الأتراك، الخبراء العسكريين والمدنيين بحسب تقارير لإعلاميين ومراقبين متابعين لتعيينات وأوامر إدارية تسنها الحكومة المؤقتة، وليس هذا وحسب بل تنقل نفس المصادر بأن الخطط التركية التي تقدم لحكومة دمشق الحالية عن قوام الجيش السوري القادم تدور على أن يكون تعداده ثمانين ألف مقاتل، يقترح المستشارين الأتراك أن يتشكل مناصفة من عناصر هيئة تحرير الشام والنصف الآخر من عناصر الجيش الوطني التابع لأنقرة.
وأيضاً ضمن تحديد مهمات هذا الجيش؛ فالأولوية كما تفصح التصريحات التركية هي مواجهة ما يسموه الإرهابيين الكرد الانفصاليين، وليس هذا وحسب بل أيضاً توظيف مقدرات الدولة السورية للانخراط في معارك تركيا ضد الكرد، كما لا تقف التدخلات التركية عند حدود، بل تصل مستوى بالغ الصفاقة؛ بحيث لم يعد ينقص غير أن يقول أردوغان هذه هي مسودة الدستور الذي يجب أن تعمل الدولة السورية تحت مظلته، وهذه هي الطائفة أو هذا المكون هو الذي يجب أن يحكم البلاد، وذاك من يتوجب عليه دفع الجزية.
أما فيما يتصل بالأبعاد والطموحات الاقتصادية للسياسات التركية حول سوريا؛ فلا شك بأنها كبيرة جداً، ومتعددة الجوانب، وعلى رأسها تحويل السوق السورية إلى مجال حيوي لتصريف البضائع التركية، ومن ثم جسر إلى الأسواق العربية المجاورة، وقد بدأت بالفعل البضاعة التركية باكتساح الأرصفة والساحات في حملة محمومة سيكون لها آثاراً خطيرةً على الصناعة السورية، وكذلك آثاراً اجتماعية لا تقل خطورة، ولن تتوقف المطامع التركية عند هذا المستوى؛ بل تتجه الأنظار التركية اليوم إلى المياه الإقليمية السورية في البحر الأبيض المتوسط، ومحتوياتها من الغاز والنفط، بالإضافة إلى التعويل على فرص الاقتصاد التركي في التوظيف في نشاطات مرحلة إعادة الإعمار.
وبالانتقال إلى الشق الأيديولوجي والقومي من الإستراتيجية التركية العامة حول سوريا فالتفاصيل والتوضيحات لا يكفي أن نلمسها بالنطاق الذي يجري الحرص فيه على رفع العلم التركي؛ حيث كان لرمزية رفعه على قلعة حلب معاني كبرى، بل برفعه قبل ذلك في أماكن عديدة في ليبيا ومدن إفريقية عديدة، ويبقى الجواب القاطع مخبأً في ميثاق الملة، الذي يبرر كل هذه التعديات على سيادة الأراضي السورية، وليس هذا فقط بل من الأدلة على الوظائف الأيديولوجية للتنمر التركي في سوريا هو التوظيف في التيارات الجهادية الإسلاموية دون غيرها، لتكون رأس الحربة في مشروع الخلافة الإسلاموية. ولأنها أخبرتهم عن جدوى استخدام الدين في مشاريع اجتياز حدود الدول، وإذا كان كل ما تقدم قد أضاء على خريطة الطريق التي شرعت تركيا بوضعها موضع التنفيذ؛ فأن من التداعيات البالغة الدلالة لهذا الحدث الذي جلبته تطورات الشهر الماضي، هو أن تركبا ورأس حربتها من القوى الجهادية المتطرفة وشقيقة داعش؛ قد أصبحت اليوم على حدود إسرائيل مباشرة، وعلى حدود الأردن المتوجسة من تهديد الحركات الإسلامية واستقرارها، والتي تمثل بوابة دول الاعتدال العربي. ويبقى القلق الأكبر في ارتدادات الفورة الأصولية السورية على القاهرة التي ما زالت تنظر للدولة السورية على أنها الجناح الشمالي الشرقي للجمهورية العربية المتحدة.
كل ذلك وغيره يحتم بأن معادلة جديدة تحاول فرض نفسها ضمن موازين القوى القائمة في سوريا وحولها.
إلا أن المنطق السياسي يقول بأن إسرائيل وتحالفاتها سيما الولايات المتحدة لن تسمح على الإطلاق بتحويل التمددات التركية.