القيادة السورية الجديدة .. ما بين الواقع والمأمول
محمود علي
ما يزال المشهد السياسي في سوريا ضبابياً إلى حدٍ كبير، رغم مرور أكثر من شهر على سقوط النظام السابق، وتسود في الوقت مخاوف لدى العديد من الأطراف والمكونات الإثنية والدينية والمذهبية إزاء الفوضى السائدة في البلاد، وعدم ظهور رؤية وتصور سياسي واضح لدى القيادة السورية الجديدة.
رغم توافد وفود غربية وعربية عديدة إلى دمشق، وإجرائها لقاءات موسعة مع مسؤوليها الجدد، إلا أن هذا التقارب يبدو إلى الآن مشوباً بالحذر، وهو بمثابة اختبار لنوايا وتوجهات هذه القيادة، وعلى أكثر من صعيد، وتضعها أمام استحقاقات داخلية وخارجية متعددة، لعل أهمها تشديدها على ضرورة مشاركة كل المكونات السورية، على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها السياسية، في صياغة ورسم مستقبل سوريا، وعدم الاستئثار به من قبل طرف واحد. فالقيادة الجديدة أمام امتحان جدي؛ ويستوجب عليها إبداء أعلى درجات الحذر، بأن تقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية في سوريا، إن كانت فعلاً تسعى لقيادة سوريا إلى بر الأمان، وعدم الانزلاق إلى اتخاذ مواقف أحادية من شأنها أن تفرض عقيدة أو مواقف إيديولوجية معينة قد تنسف معها فرحة السوريين برحيل النظام السابق، وتفتح عليها أبواب الجحيم مرة أخرى، وتدخلها في صراعات وحروب أهلية هي بغنى عنها.
إن إعادة التوازن للعلاقات الخارجية السورية شرط ضروري للنهوض بالواقع الراهن المثقل بالسلبيات وتراكمات المرحلة السابقة. فكما أن سوريا بحاجة إلى محيط إقليمي كي تتمكن من أن تتنفس الصعداء، وتقيم علاقات ندية متكافئة مع جيرانها، فإنها في ذات الوقت بحاجة إلى الاعتماد على العمق العربي الذي تمثله دول تعرف باعتدال سياساتها، مثل السعودية ومصر والإمارات العربية، وأكثر من أطراف أخرى. وكما أنه لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد البتَّة؛ فإن حاجة سوريا إلى الدعم الاقتصادي، وخاصة من الدول الخليجية، سيكون الرافعة التي ستنقلها إلى مرحلة متقدمة، وستجلب معها الأمن والاستقرار، وستعيد بناء مؤسسات الدولة المنهارة، وتبدأ معها عملية إعادة إعمار سوريا التي ينتظرها السوريين بفارغ الصبر.
غير أن حالة عدم الاستقرار الداخلي في أي دولة تنعكس بشكل مباشر على توتر علاقاتها الخارجية أيضاً، وهو ما كان النظام السابق يخفيها ويتستر عليها دائماً.
إقامة التوازن بين الداخل والخارج شرط أساسي لنهوض أي دولة، وهو ما تفتقر إليه دول الشرق عموماً. مظاهر الانتقام التي انتشرت في عدد من المدن السورية، أعطت انطباعاً سيئاً عن المرحلة القادمة، أقلها إنها تزيد من حالة الاحتقان، وتفتح الطريق أمام صراعات طائفية ومذهبية قد تنسف كل الوعود والعهود التي أطلقتها الإدارة الجديدة في سوريا، وتكرس لحالة من الانقسام والشرخ في المجتمع السوري على أسس طائفية ومذهبية، وبالتالي تزيد من فرص وإمكانية تدخل القوى الخارجية في الأوضاع الداخلية، وتكرس لحالة تقسيم وتجزئة الجغرافيا السورية، وأيضاً عبر بوابة “الإرهاب”، الصفة التي طالما لازمت القيادة الجديدة في سوريا.
الأمر المثير للانتباه، هو أنه لا يُفهم حتى الآن صمت الإدارة الجديدة عن الحرب التي تشنها تركيا على مناطق شمال وشرق سوريا، واستمرار صمتها يخلق تساؤلات عديدة لدى السوريين. فهي مطالبة بالدرجة الأولى بإدانة هذا العدوان، وضرورة اتخاذ موقف ضده، ومطالبة تركيا بوقف فوري لهجماتها غير المبررة، لزيادة مصداقيتها لدى الشعب السوري، وكي تبرهن أنها حريصة على كل شبر من الأراضي السورية، بالقدر الذي تولي فيه الأهمية لخروج إيران وجميع أذرعها من سوريا. فرغم أن الحرب التركية على مناطق شمال وشرق سوريا دخلت شهرها الثاني، وقد زجت بأقوى ترسانتها العسكرية في الحرب، من طائرات حربية ومسيرة ودبابات ومدافع وكل أنواع الأسلحة الثقيلة، إلى جانب دفع جميع مرتزقتها؛ إلا أنها لم تحقق أي إنجاز عسكري لصالحها، على العكس من ذلك، يتكبد مرتزقتها يومياً خسائر فادحة بالأرواح والعتاد حتى سيطرت عليهم روح الهزيمة، وبدأ معظمهم يفرون من الميدان، إلا أن تركيا تضغط عليهم للاستمرار في القتال الذي لا جدوى منه.
الحرب العبثية التركية ليس لها إلا هدف واحد؛ زيادة رقعة الاحتلال، وتقويض الإدارة الذاتية، وهو ما ينسف جميع جهود الإدارة الجديدة في لم شمل السوريين، وإعادة اللحمة الوطنية. الوعود التي قطعتها تركيا للإدارة الجديدة بتقديم كل أشكال الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي لها؛ تبددها حربها المجنونة ضد شعوب شمال وشرق سوريا، ودمشق مضطرة للتحرك عربياً وإقليمياً ودولياً لوقف العدوان التركي بشتى الوسائل قبل الإقدام على أي خطوة أخرى.
فاللقاء الذي جرى بين قيادة قوات سوريا الديمقراطية وأحمد الشرع وعدد من أعضاء القيادة، بعث نوعاً من التفاؤل لدى الأوساط السياسية داخل سوريا وخارجها، حيث تم رسم الخطوط العريضة لتفاهمات مستقبلية بخصوص قضايا عديدة، وأولها الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسيادتها على كل جزء منها، إلى جانب مواصلة التنسيق الميداني، ومتابعة مناقشة المسائل الأخرى مثل انضمام قوات سوريا الديمقراطية إلى الجيش السوري المستقبلي، وكذلك موضوع الموارد النفطية والزراعية ومستقبل الإدارة الذاتية وقضايا أخرى.
مجرد الجلوس حول طاولة الحوار، يعلق السوريون عليه آمالاً كبيرة، وهي فرصة وإمكانية لأن تغدو هذه اللقاءات نواة توافقات سورية متعددة قد تحدد معها مستقبل سوريا برمتها. كذلك الاجتماع الذي عقد في الحسكة بين القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” وعدد من قيادات الحركات والأحزاب السياسية في سوريا، أكد مرة أخرى أن مناطق شمال وشرق سوريا تشكل نقطة جذب واستقطاب لجميع القوى الوطنية والديمقراطية الحريصة على مستقبل سوريا. وفي هذا المفصل الهام؛ يفترض بالإدارة السورية الجديدة أن تنظر بإيجابية إلى هذه التطورات، وتضعها في مكانها الصحيح، على أنها تساهم في تعزيز الوحدة الوطنية، وتعد السند الحقيقي لها.
أهم ما ينتظره ويتأمله السوريون هو وقف كل أنواع الاقتتال داخل سوريا، وأولها إلزام تركيا على وقف إطلاق النار والاستجابة للنداءات الدولية المتعددة الداعية إلى إشراك الكرد وجميع مكونات شمال وشرق سوريا في العملية السياسية. فالمؤتمر الوطني الذي دعا له أحمد الشرع، تأجل أكثر من مرة، فرغم أن أسباب التأجيل باتت معروفة لدى الجميع، إلا أن الإدارة الجديدة يجب ألا تقع في الأخطاء التي وقع فيها الإئتلاف بإقصاء مكونات سياسية سورية منه، وألا تخضع هي أيضاً للفيتو التركي الذي أبعد الكرد والإدارة الذاتية عن المشاركة في المؤتمرات والمحافل الدولية والإقليمية الخاصة بحل الأزمة السورية، وأي حل يستثني أي مكون سياسي سوري سيكون منقوصاً وأعرجاً في أفضل الأحوال.
تمر سوريا في هذه المرحلة بمنعطف دقيق وتاريخي، ويتطلب من الجميع المشاركة في إعادة بنائها، فرغم أن حجم الدمار الذي خلفه النظام السابق كبير للغاية، وعلى جميع الأصعدة، إلا أنه بالمقابل لهفة السوريين إلى إعادة بناء وطنهم كفيلة بتسريع العملية وحرق المراحل، ولكن يُفترض بالدرجة الأولى أن توضع أسس البناء الصحيح المستندة إلى إرادة كل السوريين وعدم تهميش أي طرف. فبناء مؤسسات العدالة والدفاع وكذلك الخدمية، وتدوير عجلة الإنتاج والاقتصاد، لا يمكن إنجازها من قبل طرف واحد، بل تتطلب تضافر جهود كل الجهات الوطنية، ويقين السوريين أن لديهم القدرة على بناء وطنهم من جديد ورفعه من بين أنقاض الحرب المدمرة التي أتت على كل المرافق الحيوية الهامة، بل وتطويرها إلى أفضل مما كانت في السابق.
لا يختلف اثنان أن الكرد مع باقي شعوب شمال وشرق سوريا، حافظوا على بنية مؤسسات الدولة السورية، ومنذ اليوم الأول لبدء الأزمة السورية، وهذا بحد ذاته ينم عن رؤية وطنية إستراتيجية يمكن البناء عليها في نقل هذه التجربة إلى مناطق سورية أخرى، وهي تختصر الكثير من الجهد والوقت، على اعتبار أنها تشكل جزءاً من سوريا، وهي بعيدة كل البعد عن أي مشروع انفصالي، مثلما تدعي تركيا وبعض أتباعها.