سوريا وعمقها الإستراتيجي
![](https://www.adarpress.com/wp-content/uploads/2025/01/gfdsdf-780x470.webp)
محمود علي
رغم مرور نحو شهر ونصف على بدء العدوان التركي على مناطق شمال وشرق سوريا، خصوصاً على منطقتي سد تشرين وجسر قره قوزاق؛ إلا أنه لم يحقق أي تقدم يذكر، ولم تتغير خريطة السيطرة، والواقع هذا فرض معه معادلات سياسية رسمتها تطورات الميدان على وقع دوي المدافع وهدير الطائرات، فيما كانت تصورات القيادة التركية ومعها أتباعها ومرتزقتها من السوريين مبنية على تحقيق نتيجة سريعة عبر هجوم كاسح تحقق فيه أهدافها التي خططت لها بالسيطرة على كامل مناطق الإدارة الذاتية، وخلال أيام معدودة.
ما يزيد من حيرة السوريين أكثر ومعهم كل القوى الوطنية والديمقراطية، هو صمت الإدارة السورية الجديدة حيال العدوان التركي على مناطق شمال وشرق سوريا، برغم أنها جزء من الأراضي السورية، وكان يتوجب عليها أن تخرج عن صمتها، على الأقل أن تدعو الدولة التركية إلى الالتزام بعملية وقف إطلاق النار، وتفعيل خط دبلوماسي ساخن بينها وبين أنقرة، لثنيها على لعب دور إيجابي ينهي حالة الحرب والاقتتال في سوريا، حيث صمتت كل الجبهات إلا مناطق شمال وشرق سوريا تتعرض لعدوان مكشوف لا مبرر له على الإطلاق، لا على المستوى الوطني ولا الإقليمي ولا الدولي، ومهما كانت مسوغات ومبررات تركيا له.
فإن كانت تركيا تحاول توسيع نفوذها في سوريا عبر بوابة شمال وشرق وسوريا، والقضاء على الإدارة الذاتية، وبالتالي تفويت الفرصة على الكرد في تثبيت حقوقهم في سوريا المستقبلية؛ فإنها لن تحصد غير الريح، وستعود لتتكور داخل أسوارها خائبة خالية الوفاض، على غرار ما جرى لإيران، وإلى حد ما روسيا في سوريا. فقد تأكد للجميع أن الشعب السوري لم يعد يقبل بوصاية أي طرف إقليمي أو دولي عليه، ومهما كانت القوى التي تدير دفة البلاد تتماهى مع هذا الطرف أو ذاك أو تفاضل بينهم، لتقاطعات إيديولوجية وعقائدية معينة معه، بل بات السوري في وضع يسعى إلى شق طريق مستقبله بمعزل عن المؤثرات والإملاءات الإقليمية والدولية، أو هيمنة ونفوذ قوة بعينها، بعدما امتحن جميعهم، وتيقن أنه لن ينقذ سوريا غير أهلها، وأن الكل يبحث عن مصالحه في سوريا على حساب السوريين واستقرارهم وأمنهم.
الحالة غير المستقرة للدولة السورية، وتعطيل العمل في معظم مؤسسات وإدارات الدولة، وتعليق العمل بالدستور وحل الجيش السوري، فإن تحاول تركيا استغلال حالة الانهيار في الدولة السورية، وتوسيع نفوذها في كل الاتجاهات والسيطرة على القرار السياسي والعسكري والاقتصادي في سوريا، عبر نشر قواتها العسكرية في شمال اللاذقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكأنها بذاك التمدد غير المشروع قد وضعت يدها على مخزون سوريا من النفط والغاز في البحر، غير مدركة أنها تقحم نفسها في لعبة الفيلة الكبار، وقد تعود عليها بفعل رجعي قد تفتح عليها أبواب جهنم.
ما يحرك الغرائز التوسعية والاحتلالية التركية أكثر هو بسط سيطرتها على الشمال والشرق، وتحقيق هدفين معاً، الأول تقويض الإدارة الذاتية ومعها قوات سوريا الديمقراطية، والثاني وضع يدها على منابع النفط ومصادر الطاقة والكهرباء والسدود. فهي تتحرك وفق إستراتيجية الاستحواذ على كامل الجغرافيا السورية، مستندة إلى تحالفاتها وعلاقاتها الوثيقة مع الإدارة السورية الجديدة المتمثلة بـ”هيئة تحرير الشام”، وفي اعتقادها أن “الهيئة” هي ذاتها التي كانت بحاجة لها عندما كانت تدير إدلب فقط، غير مدركة أن اللعبة السياسية والعسكرية في دمشق الآن غدت دولية بامتياز، وأكبر من “الهيئة” وتتجاوزها، وأنه لم يعد بمقدورها – أي “الهيئة” – التي استلمت دولة مدمرة بالكامل أن تتصرف بمصير سوريا وحدها وكيفما يحلو لها، بل هناك قوى إقليمية ودولية وأيضاً داخلية وضعت إطار عاماً ومحددات أمامها كي تستمر في إدارة البلاد، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال تخطيها، في ظل افتقادها لأدنى مقومات استمرار الدولة، وبالذات من الناحية الإدارية والاقتصادية والعسكرية.
بدأت صورة المشهد والصراع الدائر على سوريا تتوضح أكثر فأكثر، حيث دخلت السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن بشكل مباشر على خط التطورات، فهي الأكفأ والأقدر اقتصادياً ومالياً على إعادة إعمار سوريا، وبالتالي فرض شروطها في عودة سوريا إلى محيطها العربي، لتكون الدول العربية بوابتها نحو إعادة موقعها الإقليمي والدولي. زيارة الوفود العربية لسوريا، وخاصة زيارة وزير الخارجية السعودي والرسائل التي وجهها بعدة اتجاهات، قبل وصوله دمشق وبعدها، تلقفتها تركيا سريعاً واعتبرتها استبعاداً لدورها المحوري – وفق تصورها – في سوريا. فالمسألة الأكثر مرارة بالنسبة لها، هي مبادرة السعودية والأردن على تدريب الجيش السوري المزمع تشكيله، وكذلك قوات الأمن، ما يدلل على رفض الإدارة السورية الجديدة المنظومة العسكرية التركية من أساسها، وهو ما يهدد مستقبل الوجود الاحتلالي التركي في سوريا برمته.
إن أول الرقص حنجلة، فشل العدوان التركي على سد تشرين وجسر قره قوزاق، يقابله فشل سياسي ذريع أيضاً. فتركيا وضعت في تصورها أنها ستتمكن من هندسة سوريا وفقاً لرغباتها ومصالحها، وأولها القضاء على الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، ولهذا تدخلت بشكل فج ووقح منذ اليوم الأول لسقوط النظام، دون إبداء أي احترام حتى لفرحة السوريين، بالتزامن مع شن عدوانها على مناطق شمال وشرق سوريا، ومرة أخرى قضت على أحلام السوريين في إنهاء الحرب، بل زادت من سعيرها، وكأنها توحي بأن ما لا تستطيع نيله عبر السياسة؛ ستناله عبر فوهات الدبابات.
لا يمكن للإدارة الجديدة في سوريا أن تتناغم مع تركيا، لا سياسياً ولا عسكرياً ولا اقتصادياً، حيث أن التجربة التركية في بناء الدولة والمؤسسات مشوهة وهجينة ولا تتوافق مع ثقافة السوريين وإرثهم المجتمعي، وذلك لعدة اعتبارات واختلافات، أولها اللغة والبنية المجتمعية وأمور أخرى، فلا يمكن للإدارة الجديدة في سوريا أن تعد تركيا عمقاً إستراتيجياً لها، بل ستستند إلى عمقها العربي بالدرجة الأولى، هذا إن كانت تسعى لفك العزلة عن نفسها، والتعايش مع محيطها الحيوي العربي، وهذا المحيط في ذات الوقت بوابتها الوحيدة نحو العالم وليس تركيا. ويفترض في هذه الحالة أن تسعى إلى إنجاز حالة توافق داخلي بين مختلف مكونات الشعب السوري، وعدم ترك الساحة مفتوحة أمام تركيا وأمثالها للعبث بمصيرها، وأولها أن تبادر إلى اتخاذ موقف صارم وواضح من العدوان على مناطق شمال وشرق سوريا، وهو الصك الذي سيمنحها الشرعية من قبل الشعب السوري.
رغم أن الخطوة الأولى في اللقاء مع قوات سوريا الديمقراطية تقبلها السوريون، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والمذهبية، بكل رحابة صدر، فإن اللقاء اعتبر رسالة قوية لتركيا التي تسعى بكل قوتها أن تضع الإدارة الجديدة في مواجهة (قسد). صدرت رسائل إيجابية من اللقاء، إلا أنه يجب أن يُستكمل بالوصول إلى تفاهمات واتفاقات هامة، تشكل اللبنة الأساسية لبناء سوريا، وعلى أساسها سيحصل التوافق مع القوى الوطنية الأخرى.
بالتأكيد تركيا ممتعضة من اللقاء الذي جمع بين قائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” وقائد الإدارة الجديدة في سوريا “أحمد الشرع”، ولكنها لا تملك الوسائل والأدوات التي تحيل دون الوصول إلى وضع تصورات مشتركة تفضي إلى رسم خارطة طريق لبناء سوريا الجديدة.
كانت تركيا تتأمل وصول ترامب للبيت الأبيض بفارغ الصبر، لتبدأ مرحلة اجتياح جديدة في شمال وشرق سوريا، وتنهي حلم الكرد ومعهم كل مكونات المنطقة في نيل الحرية والعيش بأمان واستقرار، والشروع مع أخوتهم في بناء وطنهم المدمر. لكن يبدو أن الرياح لم تأتِ كما يشتهيها أردوغان ونظامه، وأن ترامب الثاني مغاير – نوعاً ما – عن ترامب الأول، على الأقل بالنسبة لتركيا، وأنه أدرك الأخطاء التي وقع فيها خلال فترته الرئاسية الأولى، ومنها قوله لأردوغان عبر الهاتف: “اذهب؛ فسوريا كلها لك!”، وبدأ أردوغان يعد للعشرة قبل الإقدام على أي تهور آخر في سوريا، وخاصة تجاه الكرد. يبدو أن زمن رهان أردوغان على التغيرات والتناقضات بين الدول قد انتهى، وبدأ معه واقعاً لا يتماشى مع ما كان يخطط له.