إضاءة حول الدور التركي في سوريا ومستقبل البلاد!
بير رستم
إن تحرك الديبلوماسية التركية بجولاتها المكوكية بين العواصم العربية، ومؤخراً تصريحات وزير الخارجية لكل من تركيا والعراق، كلها ليست إلا نوع من محاولة تركية فاشلة للادعاء؛ بأنها ما زالت الدولة الفاعلة في الساحة السورية، ولدى إدارتها الجديدة، وبالتالي الحفاظ على بعض الدور والمكاسب السياسية، بالرغم من أن كل المؤشرات تؤكد، بأن تركيا لم تكن لها ذاك الدور لا في إسقاط النظام ولا اليوم في رسم ملامح سوريا المستقبلية، حيث في إسقاط النظام لم تسمح للفصائل الخاضعة لها بالتوجه ليس لحماة وحمص ودمشق، بل حتى لحلب، وإنما سمح لهم بالوصول لمنبج فقط كنوع من حفظ ماء الوجه، وخداع الأتباع بحرب جانبية، وهو ما يؤكد بأن قد تم ابعاد تركيا والميليشيات التابعة لها لكي لا يكون لهم أي مشاركة في إسقاط النظام السابق.
طبعاً الغاية من إبعاد تركيا وتلك الميليشيات الخاضعة لها من تلك العملية كانت بهدف عدم تقوية دورهم ونفوذهم، حيث تحركت جماعة هيئة تحرير الشام، وذلك بعد ترتيب أمريكي إسرائيلي أوروبي وخداع كل من تركيا والروس، حيث كان السيناريو المقدم لهم من “ردع العدوان”، بقناعتي وحسب قراءتي للمعطيات، هو الضغط على النظام، وإجباره على الدخول في المفاوضات مع أنقرة والمعارضة السورية، لأجل التوافق على البدء بتطبيق القرارات الدولية وبالأخص القرار (٢٢٥٤)، وهو ما رأيناه في اجتماع الوزراء العرب مع تركيا، لكن كان ذلك فوق الطاولة؛ أما تحتها فقد تم تحضير المفاجأة، حيث دخول حلب والتوجه لحماة وحمص مع توجيه إنذار للنظام السوري؛ بأن أي تحرك لطيرانها العامودي أو الحربي سيتم إسقاطه، وهذا ما جعل الطريق مفتوحاً أمام عناصر الهيئة بالوصول لدمشق دون أي مواجهات عسكرية حقيقية.
إن السيناريو السابق في إضعاف تركيا، وذلك بعد إبعاد كل من إيران والروس عن الساحة السورية، يبدو إنه قد رُسِمَ بدقة بين الأوروبيين والأمريكان والإسرائيليين مع مشاركة عربية، وبالأخص المحور السعودي الإماراتي، وقد انطلت الخدعة على تركيا على ما يبدو، وهذا ما لمح له وزير خارجية إيران وذلك في زيارته الأخيرة لأنقرة، قبيل سقوط نظام الأسد حيث صرح حينها وقال: “بأنهم لم يكونوا يتوقعون أن تقع تركيا في الفخ”! وفعلاً وقعت هي في الفخ، ووافقت على السيناريو متأملةً إنها ستجبر الأسد على التفاوض معها، وذلك بعد محاصرة حلب من قبل الهيئة، طبعاً مع تقديم لقمة “تل رفع ومنبج” والتي وجدتها “امتيازاً” كبيراً لها لتقوية أوراقها وخاصةً مع ما كانت متوهمة؛ بأن عملية “ردع العدوان” ستقف عند تخوم حلب، وبالتالي ستكون هي أكبر الرابحين من بين الجميع كدول أو كمجموعات عسكرية محلية، حيث خروج إيران وروسيا من المعادلة، وميليشياوياً فإن الفصائل الخاضعة لها سوف تستولي على مناطق جديدة، بينما الآخرين سيكونوا خاسرين وبالأخص قوات سوريا الديمقراطية، كما أن هيئة التحرير لن تفوز إلا ببعض القرى في دائرة نفوذها وصولاً لتخوم حلب، وبالتالي ستصبح تركيا هي اللاعب الأقوى، وستجبر النظام على القبول بشروطها، والدخول معها في مفاوضات مباشرة تتفق معها ضد قوات سوريا الديمقراطية، وكذلك توسيع نطاق ما يسمى باتفاقية أضنا لبناء ما سمتها تركيا بالمنطقة الآمنة على طول الحدود التركية السورية.
وهكذا مضت الأمور، وجاءت تركيا لاجتماع وزراء العرب وهي ما زالت تحلم؛ بأنها ستكون الدولة ذات النفوذ الأقوى، مع أن عملية ردع العدوان كانت قد تجاوزت حلب ووصلت لتخوم حماة، ولكن وبعد سقوط المناطق الوسطى والتوجه لدمشق أدركت أنقرة؛ بأن اللعبة قد مشيت عليها، ولذلك رأيناها كوّعت كعادتها، وبدأت تبث خطاباً جديداً تخدع بها نفسها وتوابعها؛ بأن هيئة التحرير لن تتحرك إلا وفق إرادة أنقرة وسياساتها، وأرسلت قبل الجميع مسؤوليها الأمنيين وديبلوماسييها للإيحاء بذلك، ولكن وكما يقال؛ ها هي الرياح تجري عكس مسارات سفنها ومصالحها، حيث نعلم بأن القرار في دمشق لن يكون بيد تركيا، بل لاعبين آخرين خلف الستار، بينما الرياض (السعودية) هي التي ستكون أمام الستار ومعها المجموعة الخليجية.
طبعاً هذه الحقيقة باتت تدركها تركيا تماماً، ولذلك هي تحاول التنسيق مع عدد من العواصم العربية مثل الرياض وبغداد، وطبعاً مع الدوحة حليفها الدائم، لأجل الحفاظ على دور ما لها، وبالأخص أن تحظى شركاتها بالإعمار في سوريا، ولكن تعلم دون دعم خليجي وموافقة أمريكية أوروبية إسرائيلية سيكون من الصعب الحصول على ذلك، وهو ما يدفعها للتهدئة والقبول بشروط اللعبة، وذلك بعد تغير موازين القوى لصالح الأطراف الأخرى، وهذه ستكون لصالح الملف الكردي إن عرفت القوى الكردية استثمارها بشكل جيد، ويبدو فعلاً يتم العمل عليه، وبتوجيه من الأصدقاء، مما جعل السيد بارزاني يستقبل الجنرال مظلوم عبدي، والتي ستدفع الطرفين الكرديين للاتفاق على ورقة عمل مشتركة للتفاوض عليها مع دمشق بخصوص مستقبل سوريا، وشكل النظام السياسي، والعلاقة بين المركز والأقاليم، وقضايا مختلفة تتعلق بالسلطات، وتوزيع الثروات، وقضية علاقة قسد بما سيتم تشكيله تحت اسم الجيش الوطني مستقبلاً.
وفعلاً قد انعكست هذه القضايا والمستجدات التي قَوَّتْ الإدارة الذاتية كلاعب سياسي في المعادلة السورية، بحيث باتت قسد ترفض ما طرحتها دمشق وإدارتها الجديدة من مسألة الانضمام كأفراد، أو تسليم السلاح وإلى ما هنالك، والتي تعني بالأخير الاستسلام تماماً، وتطبيق الرؤية التركية في حل الملف، مما جعلت قسد ترفض ذلك تماماً، ولا تقبل بأي حل إلا وفق رؤيتها السياسية والأمنية والعسكرية، بحيث تصبح ككتلة تنضم للجيش القادم، وتحتفظ بمناطقها كمنطقة نفوذ مع إدارة سياسية لا مركزية في سوريا، وتقاسم الثروات النفطية مع باقي السوريين بشكل عادل، وغيرها من المبادىء التي تمنع عودة الاستبداد للبلد. وللعلم لو كانت تركيا ومعها كل الفصائل الميليشياوية ومعهم هيئة التحرير في وضع آخر، لكانوا شنوا معاً معارك ضارية ضد قوات سوريا الديمقراطية، لكن يعرفون جيداً؛ بأن أي هجوم من هذا النوع سوف يستدعي تدخلاً خارجياً!
خاتمة للحل؛ انطلاقاً منمَ سبق، ونتيجة تغير موازين القوى لصالح التحالف الدولي ومعهم قسد والمحور العربي وإسرائيل؛ لم تبقَ أمام تركيا إلا القبول بالشروط الجديدة؛ بأن ترضى بوجود قسد والإدارة الذاتية، والاتفاق معها على إيجاد صيغة مناسبة للتفاهم مع ضمانة أمريكية ورعاية منها، وكذلك من إقليم كردستان، ذاك سياسياً! أما اقتصادياً فيكفيها محافظتي حلب وإدلب لأن تعمل بها شركاتها في إعادة البناء، وإلا فقد تخسر الكثير، وتخرج من سوريا خالي الوفاض بقناعتي.
وأخيراً، وبخصوص عفرين وباقي المناطق التي تحتلها؛ فيجب أن تنحل وفق الدستور الجديد في البلاد، والذي يقر بالدولة اللامركزية، بحيث تصبح عفرين إدارة محلية بصلاحيات واسعة بيد أبنائها، وذلك بعد إخراج كل الميليشيات العسكرية منها، وانضمامها للجيش الوطني، وبذلك يمكن أن يخرج الجميع فائزاً؛ سوريا دولة واحدة لا مركزية، ترفع عنها العقوبات، وتعاد بناؤها لتتعافى بعد سنوات، وحل القضايا الداخلية وعلى رأسها الملف الكردي، وكذلك تركيا وباقي الدول تحظى بمشاريع استراتيجية، حيث دون ذلك يعني الدخول مجدداً في نفق الصراعات الداخلية والإقليمية.