مأساة السوريين بين مطرقة مرتكبي المجازر بحقهم وسندان مستغليها
كمال حسين
تشهد مدينة حمص هذه الأيام، وأرياف حماه وقرى وبلدات الساحل السوري مجازر غير مسبوقة، ولم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها غير تلك التي حدثت بحق الأرمن في القرن التاسع عشر، وما سبقها من جرائم وتصفيات جماعية كانت قد وقعت بحق العلويين والكرد أيضاً.
أما مجزرة اليوم، والتي طالت بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان عشرات الضباط العلويين وهم نيام في منازلهم، بعد أن كانوا قد أجروا تسويات مع السلطات الجديدة، وقد سلموا بموجبها أسلحتهم، فإن الجديد فيها وحولها للأسف الشديد هو ما حملته، الحملة الهيسترية من التعليقات المتضامنة مع الجريمة، باعتبار أصحابها أن الجريمة بحد ذاتها رد فعل جد معقول بالنظر إلى جرائم النظام السابق.
التعليقات على المجزرة عديدة من قبل مواطنين مثقفين عرب سنة سوريون على صفحات التواصل الاجتماعي، والتي تدور في أعقلها إلى الدعوة لاعتبارها حدثاً يبقى أقل بكثير في وطأته من مجازر نظام الأسد بحق مدينة حماه، أو تلك التي نفذها رفعت الأسد في سجن تدمر، وذلك في إطار احتواء ردة الفعل على بديهية أن المجزرة هذه المرة لم تكن قد وقعت على أيدي مرتزقة نور الدين الزنكي، أو الشيشاني، أو السلطان مراد؛ بل على أيدي مواطنين سوريين من حمص ذاتها، يقولون عنهم عناصر منفلتة تتبع لفصائل منفلتة أيضاً، وتقول هي عن نفسها أنها تلاحق على طريقتها فلول النظام السابق، الأمر الذي يأخذ المشهد مع غيره من الممارسات الطائفية اليومية التي تنتهجها حكومة الأمر الواقع المؤقتة ذات اللون الواحد، والنزعة الأصولية التكفيرية، والسجل الحافل بالإرهاب؛ إلى منطقة قاتمة يصبح فيها الخطاب الطائفي هو سيد الموقف، وتصبح معه اصطفافات القرن الهجري الأول بنظر هؤلاء بمثابة المواد فوق الدستورية، والتي يجب أن يقوم عليها العقد الاجتماعي الجديد، الذي سينظم حياة السوريين ومصالحهم في دولة واحدة.
وبالانتقال من الواقعة ذاتها، إلى الدلالات والرسائل التي تحملها مجزرة بهذا الحجم وبهذا التوقيت بالذات، في صبيحة اليوم التالي لسحب مقاتلي فصيل نور الدين الزنكي الأجانب وغيرهم من غير السوريين إلى خارج مناطق الأقليات، وعلى مسافة شهرين تقريباً من تاريخ سقوط النظام السابق؛ لتؤكد أن في الأكمة ما وراءها، وأن أصابع خفية تتربص بوحدة البلاد، وتخطط لتفكيك أي بقعة متبقية في نسيجها، أصابع ليس مستحيلاً تحديدها بعناية، وكشف ضروب انغماسها بدماء السوريين، وبمصير دولتهم، ومستقبل مجتمعاتهم.
وبكلمة حاسمة يواجه الوضع السوري اليوم تحديين مترابطين وكبيرين، الأول، هو الفراغ، أو الفلتان الأمني. والثاني، الضلوع في إنتاج خطاب فصراع طائفي، ومن ثم استدعاءه إلى حياة المجتمع والدولة عبر إكراه الأقليات الدينية والعرقية على الإذعان باستخدام العنف لإرادة ما تزعم أنها الأكثرية.
وفي معمعان هذه البيئة المعطوبة عميقاً إلى حد الاعتلال؛ يجد العدو التركي ضالته، وفي تربتها ينصب شباكه. فمن جهة يحرض على تسعير الغلواء للطائفية، ومن جهة يرسل طلائع استخباراته بحجة مد يد العون إلى الأقلية العلوية، وفي كل مرة تبقى عينه على موارد النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية.
وإلى ذلك بات واضحاً أن المشكلة الوطنية السورية؛ هي مشكلة تركية بامتياز، وإن مصائب السوريين على مدى أزمتهم كان مصدرها أنقرة التي تقضم اليوم أرضهم وفق خطة ممنهجة ومتدرجة، ترتسم معالمها في إدلب وحلب التي افتتحت بها قنصلية تركية، وتحاول فيهما تطبيق سياسة اقتصادية وتربوية تركية ترنو إلى سحبها نحو ريف اللاذقية، الأمر يعني بوضوح أن الشمال السوري في طور الاحتلال والتتريك المتناسق، وبأن المكونات السورية فيمَ تبقى من مناطق سورية ستكون هي الأخرى أيضاً موضوعاً مرشحاً للعبث في هندسته وتموضعاته التي رتبها الزمن.
والسياسة التركية في كل مقارباتها لا تخجل في الكشف عن نواياها في إعادة هيكلة الشعوب والمكونات السورية لتصبح أكثر انسجاماً مع نمط الزراعة التركية والمطبخ التركي الذي تمرس بصناعة التتريك والأسلمة.
بقي بعد كل تلك الجرائم والهمجية المتنقلة في الجغرافيا السورية، والتي تظهر بأفظع صورها في قصف المدنيين على جسم سد تشرين وفي مدينة صرين وارتكاب المجازر بحقهم؛ بقي أمام الشعوب السورية من ضحايا مخططات السلطان العثماني الجديد، أن تجيب على سؤال التحدي، وأن ترقى في وعيها وموقفها إلى مستوى المخاطر.
صار لزاماً على العلويين والكرد والدروز والطوائف المسيحية، وباقي الأعراق والإثنيات أن يلتفوا في جبهة واحدة حول خطة طوارئ وطنية، وحول برنامج عمل وطني يوقف العدوان، ويستأصل أدواته من عقل السوريين وثقافتهم.
إن حرب الإبادة المُعلنة، والتهجير القسري، وإطلاق العنان لغرائز الانتقام؛ تملي اليوم على المجتمع الدولي، والمنظمات الحقوقية، ولجان حقوق الانسان، وهيئات الأمم المتحدة تحمل مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية تجاه الشعوب السورية المستضعفة والمهانة بدواعي التكفير، والخروج على عقيدة الأكثرية بما في ذلك اتخاذ القرارات الضرورية لوضع البلاد تحت الحماية الدولية، كما يجب على النخب السورية، والحركات والقوى المؤمنة بدولة الحداثة والديمقراطية وحق المواطنة أن ترتقي بموقفها المتكلس من مفهوم الدولة الوطنية المركزية القومية القائمة على العقيدة أو الدين، هذا النمط من التفكير أورثنا مآسي اللحظة الراهنة وحروبها، وأسال لعاب الدول الطامحة باجتياح عقولنا.
كثيرة هي المداميك الخاطئة في العقل العربي العام، وفي عقل السوريين الخارجين اليوم من طور الاستبداد الطويل، وكثيرون هم أولئك الذين لم يعودوا يطيقون العيش خارج أنظمة الاستبداد، بل الذين يتحضرون لخلق استبداد جديد أشد وطأة وأكثر إيلاماً. ولأن هذا العقل محبوس منذ ولادته في قمقم الماضوية والاستبداد؛ لا يعرف الكتابة إلا بيد واحدة، ولا يرى إلا بعين واحدة، وزاوية النظر عنده تمسح قطاع رؤية محدود دوماً.
ولأن مروحة التفكير مشدودة إلى الجامع، وأبجدياتها تُدْرَسُ فيه؛ فهو لا يستطيع أن يكون نقدياً على الإطلاق، وسيبقى مفرطاً في انتقائيته، حيث يتباهى المثقف هنا بحجم معارفه عن المخططات الصهيونية وبرامج تهويد القدس و.و، ويستطيع في كثير من الأحيان أن يطنب أيضاً في الكشف عن تهديد الدور الإيراني، لكنه لا يستطيع في الغالب أن يرى إي عورة في السياسة التركية التي تمضي إلى ابتلاع دول عربية وإسلامية بأكملها، وتعيث فساداً أمام ناظريه بسلامة أراضيه وتراثه وأسواقه وموارده.