الرئيس “الشرع” ومقارباته من الكرد
محمود علي
وأخيراً جرى تنصيب “أحمد الشرع” رئيساً لسوريا، ومعه كثرت التكهنات والتحليلات حول شرعية “تعيينه” لنفسه رئيساً، أو تزكيته من قبل مجموعات عسكرية تدين بالولاء له، فيما ذهب البعض إلى اعتبار خطوة “الشرع” بمثابة “اغتصاب للسلطة وتفرد بها دون غيره، وقد سبقها تعيين أتباعه في الوزارات والمفاصل الأمنية الهامة”، ما يزيد من المخاوف على أنه يسير على خطا سلفه في فرض لون واحد على سوريا، سوريا التي لم تخرج بعد من أتون حرب أهلية، حتى تدخل أخرى، ربما تكون أكثر دموية ودماراً وفتكاً من سابقتها.
في خطاب التعيين، وكذلك كلمته للسوريين عقب تعيينه؛ لم يأتِ “الشرع” بجديد ينكأ جراح السوريين، ويُرسي بهم إلى بر الأمان، فكانت جمله منتقاة بعناية، وبمجملها دغدغت عواطف السوريين، دون أن يتطرق إلى نيته في إحداث تغييرات سياسية ملموسة، أو يتحدث عن شكل نظام الحكم في سوريا المستقبل (هل هو مركزي، لا مركزي، فيدرالي، برلماني، رئاسي…)، إضافة لخلوه لأي إشارة إلى العلمانية أو الديمقراطية، أو فتح المجال أمام حياة سياسية نشطة، تمهّد لمشاركة جميع المكونات السياسية، وعلى مختلف مشاربها السياسية والدينية والإثنية، في رسم مستقبل سوريا، خاصة حيال وضع دستور جديد للبلاد، عدا عن إشارة سريعة لإجراء الانتخابات. كما فوض نفسه حق تشكيل لجنة لصياغة الدستور، وكذلك لتشكيل “مجلس شعب” مؤقت أو انتقالي، ما حصر جميع السلطات بيده.
لن يسوء أحد الظن بنوايا “الشرع” في إعادة بناء سوريا، وعلى جميع المستويات، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، وفق تصريحاته العلنية. ولكن هناك جملة من الأسئلة التي تطرح نفسها، بدايتها تدور حول شرعية تعيينه رئيساً، فحتى أنه يفتقر إلى ما تسمى “الشرعية الثورية” في هذه الحالة، ولا يمكن لمجموعات معينة تدعي أنها عسكرية، ومارست كل أنواع العنف غير المبرر، والذي وصل في أحيان كثيرة إلى حد ارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، أن تمثل تلك “الشرعية الثورية”، والتي تختبئ خلفها العديد من الفصائل، أبرزها فصائل “فرقة السلطان سليمان شاه، السلطان مراد، الحمزة، أحرار الشرقية” وغيرها، وهي متورطة في تصفية مدنيين مثل السياسية الكردية وأمين عام حزب سوريا المستقبل “هفرين خلف”، إضافة إلى ممارساتهم السرقة، واستقدام الأجنبي لاحتلال الأراضي السورية ورفع أعلام غير سورية، وانغماسهم في إجراء عمليات التغيير الديمغرافي في عدة مناطق من سوريا، خصوصاً في عفرين، سري كانيه وكري سبي، افتعال حروب بينية، وشن حروب متعددة على الشعب الكردي، ورفع شعارات طائفية ومذهبية مقيتة. كان الأجدى بـ”الشرع” اعتقال هؤلاء وتقديمهم للمحاكمة على الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب السوري، لأنهم لا يمثلون الشرعية مطلقاً، بل هو من أضفى عليهم الشرعية، وكأنه برر لهم أعمالهم الإجرامية.
لم يتطرق “الشرع” في خطابه مطلقاً إلى الشعب الكردي وحقوقه، رغم إدراكه أنه يشكل القوة الوازنة في أي معادلة حل في سوريا المستقبل، وكذلك تجاهل ذكر قوات سوريا الديمقراطية، رغم أنه في حوار مكثف معها. إن أي تحالف لـ”الشرع” مع قوات سوريا الديمقراطية، أو مع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، سيعتبر سنداً قوياً له في طريق السير نحو وضع الأسس الصحيحة لبناء الدولة السورية، وعلى العكس من ذلك، الابتعاد عنها يجعله ضعيفاً، ولا تكتمل صورة سوريا المرتقبة، وكما صورها في خطابه. كل الاعتقاد أن عدم ذكره للكرد في خطابه، جاء نزولاً عند رغبة تركيا، أو أنه أراد ألا يغضب الأتراك، أو يكسب مزيداً من الأعداء في هذه المرحلة الدقيقة والعصيبة من التحولات في سوريا.
فيما الحملات التي يقودها بعض الموتورين ضد قوات سوريا الديمقراطية، تشكل هي الأخرى طعنة لجهود “الشرع” في تجميع أشلاء سوريا الممزقة، وتزيد من أعبائه في إعادة اللحمة الوطنية السورية، والتي ما أحوج السوريين إليها في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به بلادهم. ويفترض به أن يغلق هذه الأبواق النشاز، فهي تلحق الضرر به قبل غيره من أعدائه، ولن تنال من مكانة قوات سوريا الديمقراطية أو تضعف من وطنيتها التي يعترف بها العدو قبل الصديق.
رغم التحفظات التي صدرت من بعض الأطراف السورية حول تعيين “الشرع” رئيساً للجمهورية، إلا أن المنظور العام لدى معظم السوريين، إن هذه الخطوة يجب أن ترافقها إجراءات عملية نحو وقف العنف في سائر الأراضي السورية، خصوصاً المبادرة إلى وقف العدوان التركي على مناطق شمال وشرق سوريا، ليدرك السوري ويقتنع أنه يسير في الاتجاه الصحيح، على أن تعقبها مباشرة الدعوة إلى فتح باب المصالحة الوطنية بين جميع السوريين، وتتوج بمؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده خلال هذا الشهر، رغم وجود بعض الملاحظات عليه، من حيث الإعداد والدعوات والإطار العام الموضوع له، إلا أنه – أي مؤتمر الحوار – يمكن أن تتمخض عنه نتائج هامة قد تضع سوريا في المسار الصحيح لبناء الدولة والمجتمع، وبالتالي تجاوز آلام الماضي، والبدء بمرحلة جديدة عنوانها الرئيس؛ لا للحروب، ونعم للحرية، والعدالة والديمقراطية.
إن إبداء مقاربة براغماتية حيال العديد من القضايا الأساسية، تنعكس في كثير من الأحيان إلى الضد منها. فقضية تهدئة نفوس الناس، ونشر الأمن والاطمئنان بينهم، وإخراجهم من دائرة الخوف ورهاب الاعتقالات العشوائية، هي مهمة أولى وضاغطة على تشكيلة الحكومة الحالية، وخاصة على “الشرع”، إلى جانب ضمان ممارسة جميع الطوائف والمذاهب لطقوسها الدينية والثقافية والاجتماعية، أيضاً هي مطالب تفرض نفسها بقوة على من يمثلون السلطة الجديدة في دمشق. إن شَعَرَ الدرزي، الكردي، العلوي والمسيحي وغيره من مكونات الشعب السوري بأنه استرد ما فقده أيام النظام السابق، حينها فقط يمكن القول بأن الثورة قد انتصرت، وما عداها لا يغدو سوى كلاماً إنشائياً ممجوجاً لا يقدم ولا يؤخر، ولن تستقر سوريا دون الوصول الكل إلى حقوقه. ولا يمكن القول بأن الثورة انتصرت بمجرد الوصول إلى القصر الجمهوري أو رحيل النظام السابق، فانتصار الثورة لها شروطها ومعاييرها المعروفة، ولا يمكن إبداء مقاربة مواربة منها، أو القفز فوق مطالب الناس.
تكثر الدعوات في هذه الفترة المضطربة من عمر سوريا لقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، بضرورة الانخراط بشكل أكثر قوة في مجرى التغييرات السريعة الجارية في سوريا، بعد أن غدت المنبر العلماني والديمقراطي الوحيد في سوريا، رغم صدور بعض الأصوات الأخرى، إلا أنها ضعيفة ولا ترقى إلى مستوى حَملِ أعباء التغيير والتحولات الجذرية. فإن كان معظم السوريين يؤمنون بضرورة تحول سوريا إلى دولة ديمقراطية يشارك الكل في رسم مستقبلها، مقابل دعوات بعض الأطراف التي تتوهم أنها استلمت سوريا من بابها لمحرابها، وتحاول الاستئثار بالسلطة والدولة، وتعمل بموجب مقولة “من يحرر يقرر”، وأن الأقلية تخضع لقرار الأغلبية، فإن هذه التوجهات الخطيرة تقود سوريا إلى المربع العنفي الأول. إزاء هذه الدعوات الموتورة، يعد خطاب الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، الأكثر اعتدالاً وقبولاً بين السوريين، ويشكل ضمانة حفاظ سوريا على تنوعها السياسي والإثني والديني.
بكل الأحوال لن تعود سوريا إلى سابق عهدها في الاستبداد والديكتاتورية، و”الشرع” أمامه امتحان كبير وشاق، في القدرة على أن يقف على مسافة متساوية من جميع الأطراف السياسية، ولا يكفي قراره بحل الفصائل المسلحة وضمها تحت راية وزارة الدفاع، بل المطلوب منه اتخاذ قرارات أكثر حزماً لأتباعه بالدرجة الأولى، ولا يكفي أن يطلق عليها “أعمال فردية”، في حين أنها تتجه نحو أعمال ممنهجة ومخطط لها مسبقاً، ويبدو أنها متمردة حتى على “الشرع” نفسه، هذا إن كان فعلاً يسعى نحو ضبط الفلتان الأمني، والحفاظ على السلم المجتمعي، وفي مختلف المناطق السورية، علاوة على ضرورة وضع برنامج سياسي واضح، قادر على استقطاب مختلف التيارات والقوى السياسية في سوريا، وعدم خضوعه لأي تأثيرات وضغوط من قوى إقليمية أو خارجية، وأن يمثل الوحدة الوطنية السورية وسيادتها بكل معنى للكلمة، ويقطع مع ماضيه، ويتحول إلى رجل دولة يمثل وجه سوريا الناصع، وإلا فإن التاريخ لا يرحم أحداً.