مانشيتمقالات رأي

آفاق الوضع السوري بين سكَّتين ومؤتمرين

كمال حسين

في وقت تتسارع فيه الجهود المحلية والدولية لمحاولة التأثير في رسم صورة سوريا الغد؛ تبرز إلى الواجهة محطة المؤتمر الوطني السوري كصيغة لا بد منها، أو ليمر من خلالها توافق السوريين على دستور جديد يقونن تفاهماتهم، ويصون مصالح وخصوصية كل مكون من مكوناتهم. يجري ذلك على خلفية بروز الكثير من الصدوع العميقة في نظرة السوريين لبعضهم، وفي تخيلهم لشكل الدولة السورية ولهويتها ومستقبلها.

وفي جو يتفق فيه البحث على أهمية هذا المؤتمر، وعلى حتميته كممرً إجباريٍّ؛ تتنافس في المشهد السوري صورتين وممارستين حوله، وفي طريقة إعداده، واحدة تعكسها ترتيبات حكومة الشرع التي حددت حتى الآن عدة مواعيد لانعقاده، كان آخرها قرار تشكيل اللجنة التحضيرية من أسماء واختصاصيين في غالبيتها تدور في فلك هيئة تحرير الشام ومن المحسوبين على الإسلام السياسي، وما تضمنته ذلك من مواعيد ترتيبة استعلائية تستبعد من صفوفها أية ممثلين عن مكونات أو تيارات تعبر عن تطلعات غير الإسلاميين، حيث تشير كل التعليقات المرافقة لهذا الإجراء، وفي ردود الفعل الشعبية في الشارع السوري، ولدى وسائل الإعلام المحلية والدولية، وفي مواقف غالبية أطراف المعادلة الوطنية، وأوساط المثقفين من أنصار الدولة المدنية والعلمانية، إلى توجسٍ كبيرٍ راكم مخاوف من ممارسات وقرارات سابقة، وأثار زوبعة من عناصر القلق والشك على مستقبل الحياة المشتركة، وعلى مستوى السلم والاستقرار في النسيج الاجتماعي الوطني العام.

وإلى ذلك تجدر الإشارة إلى أن في طليعة الأطراف التي جرى تعمد استبعادها بالاسم الصريح من الدعوة للمشاركة في أعمال المؤتمر؛ هو تحالف قوات سوريا الديمقراطية، في خطوة تعكس انصياع حكومة الشرع للإملاءات التركية الصريحة من جهة، وتهرب هذه الإدارة من الاستحقاقات الوطنية، واستحقاقات العملية الديمقراطية التي ستستدعيها مشاركة قوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى.

هذا العامل هو بالذات عنصر التحدي الكبير للواهمين بأسلمة الدولة السورية، وسد الإعاقة الأول في طريق المروجين من خلف الحدود لخلافة إسلامية عثمانية جديدة، ومن نافل القول: “إن التحدي لا يقف عند هذا المستوى من تعقيد مهمات العبور في طريق مشروع الأسلمة والخلافة، بل يرقى إلى درجة المواجهة الصارمة، والندية بكفاءة عالية، ندّية تمثلت ليس فقط بالاعتراض على صيغة هذه اللجنة التحضيرية المزعومة، بل بمراكمة نماذج ومؤتمرات حوارية سورية بينية عديدة، مختلفة في شكلها ومضمونها عن تلك التي يجري الحديث عنها في دمشق.

ولعلها رسالة بالغة الدلالة، وحركة ذات معنى كبير في أن تجري الدعوة من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي لفعاليات الشعب السوري بكل مناطقه وأطيافه وتعبيراته السياسية والمجتمعية إلى ملتقى الحوار السوري السوري الرابع، والذي انعقد في مدينة الرقة السورية يوم الخميس الواقع في 13 /2/2025.

هذا الملتقى الذي جاء تتويجاً لنهج الحوار، وتكريساً لقيم الديمقراطية التي طالما تبنته تجربة الإدارة الذاتية وقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي منذ انطلاقتها، كمنتوج تاريخي خرج من رحم الثورة السورية التي انطلقت في العام 2011.

وقد تبلور ذلك النشاط بعد أن حققت تجربة الإدارة الذاتية بقيادة مجلس سوريا الديمقراطية استقرارها النسبي، وبعد تسجيل نجاحات نوعية من قبل قوات سوريا الديمقراطية في مواجهة التحديات الإرهابية المتمثلة في تنظيم داعش الإرهابي، ليدشن الملتقى الحواري الأول أواسط العام 2018 سكة الحوارات والملتقيات التي تبعته في نهاية 2018، وفي نهاية شهر آذار من العام 2019 بالتوافق مع إعلان الهزيمة الجغرافية لداعش، والانتصار على فلوله في الباغوز، وما بين المؤتمر الثالث الذي عُقِدَ في كوباني في العام 2019، والمؤتمر الرابع الذي استضافته الرقة في الساعات الماضية؛ لم تتوقف سلسلة اللقاءات الحوارية في الداخل السوري وفي الخارج، ولم تنقطع الجهود للتقريب بين وجهات نظر السوريين بقصد التوصل إلى مشتركات من شأنها تذليل العقبات في طريق حل الأزمة السورية، وفي تنفيذ القرارات الدولية، وبذل المساعي التي تحفظ وحدة الدولة السورية وسلامة أراضيها، ومما لا يجوز إغفاله في هذا الصدد؛ هي المهام التي اضطلع بها المؤتمر الرابع لمجلس سوريا الديمقراطية، الذي عُقِدَ في الرقة أيضاً في الشهر الأخير من العام  2023، والذي كان من أهم مخرجاته، التوافق على إقرار العقد الاجتماعي الجديد، الذي يمكن أن يظلل حياة السوريين في دستور عام، ويصلح أن يشكل القانون العام الذي يحافظ على مصالحهم، ويحصن سلامتهم، ويحترم خصوصياتهم الثقافية، وقيمهم ومعتقداتهم.

بالتدقيق فيمَ سُبِقَ ذكره نكون قد وصلنا إلى نتيجة مفادها إن في التداول اليوم سكَّتان ومؤتمران؛ سكة فمؤتمر حوار بين طرشان، مصمم سلفاً لأسلمة الدولة؛ ثم جرها إلى خارج العصر، وإخضاع مكوناتها لمشيئة منظمات سلفية جهادية، تعتمد التكفير والإرهاب أداةً رئيسيةً في خطابها، وسكة أخرى عصرية تعتمد قواعد ديمقراطية؛ تؤدي إلى مؤتمر حوار وطني حقيقي يسعى إلى توافقات جادة بين جميع المكونات، وعلى كل الجغرافيا الوطنية السورية، لا يستبعد أحداً أو حزباً أو جماعة دينية أو عرقية أو  سياسية، يعول عليها في أن يفضي إلى دستور يصون حقوق السوريين على اختلاف مشاربهم، ويحترم ثقافاتهم وقيمهم.

فالملتقى الحواري السوري الرابع الذي انعقد للتو برعاية حزب الاتحاد الديمقراطي في هذا التوقيت والمكان؛ لا بد أن يكون قد اضطلع بتوجيه رسائل عديدة بعضها للداخل الشعبي؛ لملء الفراغ على المستوى الوطني، ثم طمأنة مكونات الشعب السوري، واستكمال زجها في العملية الوطنية، وفي تعبئة الرأي العام، ومتابعة استمزاج النخب الثقافية، والتيارات السياسية ضمن مهام الجهود النضالية المستمرة لإخراج الوضع السوري من أزماته، وبعضها الآخر موجه للقوى الدولية الفاعلة والمعنية بالوضع السوري، لتبديد مخاوفها من خطر انتعاش نشاط الإرهاب، وتهديد الاستقرار الإقليمي والدولي؛ في إشارة لا تخلو من دلالة بأن اللقاء الحاصل في الرقة هو النموذج المصغر، أو البدئي؛ الذي يجب أن يجري على منواله المؤتمر الوطني الذي تنتظره الحالة السورية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى