مانشيتمقالات رأي

بين مؤتَمَرَين!

محمد علي

انتهى ما يسمى “مؤتمر الحوار الوطني السوري” بمثل ما بدأ به، في جو مشحون بالتناقضات والصراعات السياسية والعسكرية، دون أن يحقق أدنى المعايير والشروط للحوار الوطني المزعوم، متجاهلاً إرادة وقرار السوريين في رسم مستقبلهم بعد رحيل نظام الأسد، وليعيد للواجهة مشهداً لا يختلف كثيراً عن السابق، لجهة التهميش والإقصاء، واتباع سياسة انتقائية مفرطة في اختيار المتحاورين ومن ثم أعضاء المؤتمر.

مثلما لم تكن الجلسات الحوارية موضع اهتمام معظم السوريين في الداخل والخارج، كذلك كان المؤتمر عبثياً بشكل لم يتصوره أحد، ولم يحظَ بمتابعة حثيثة من قبل أبناء الشعب السوري، لطالما أن جلسات الحوار التي عقدتها “لجنة الحوار” في عدة محافظات، قد وضعت في الجوهر عنواناً رئيساً واحداً للمؤتمر؛ أنه يمثل جهة واحدة لا غيرها، وأبقت غيرها من المكونات والهياكل السياسية السورية خارج أي فعل أو حراك سياسي، وأن هدفها الأول والأخير الاستئثار بكل مفاصل الدولة والمجتمع، إن تسنى لها ذلك.

الأمر الغريب، أنه رغم محاولات الجهات السياسية والإقليمية التي تقف وراء عقد هذا المؤتمر الهزيل إضفاء الشرعية عليه، وتسوّقه على أنه يمثل إرادة السوريين. غير أن الرياح أتت في غير ما تشتهيه تلك الجهات والأطراف، حيث عبرت معظم القوى والتيارات السياسية السورية، وعلى اختلاف انتماءاتها ومرجعياتها، عن رفضها للمؤتمر ومخرجاته، لطالما أنها تمثل طيفاً سياسياً واحداً من القوى المهيمنة على الدولة ومؤسساتها. ولا يفهم أحد ما هي النتائج المرجوة من هذا المؤتمر إن كانت قراراته وتوصياته غير ملزمة للإدارة السياسية العليا، وفق ما صرحت به اللجنة التحضيرية، فهل هو مؤتمر استشاري، أم تمهيد لمؤتمر ثانٍ في قادم الأيام، أم هو بمثابة استفتاء لمعرفة نسبة خضوع الفئات المجتمعية السورية لإرادة حكام دمشق الجدد، وهل هو رسالة تحذير للقوى والأطراف السياسية التي تقف بعيداً عنها وترفض الانضمام إلى جوقتها المؤطرة ضمن التيارات الإسلامية السلفية وأخواتها؟

الإدارة الذاتية والقوى والأحزاب الكردية، بما فيها المجلس الوطني الكردي، عبرت عن موقفها المعارض للمؤتمر، ولكيفية اختيار المندوبين فيه. كانت لعبة خبيثة وماكرة أدارتها اللجنة التحضيرية في رفض الحوار وتمثيل الكيانات السياسية في المؤتمر، واعتمدت على تمثيل أفراد وشخصيات لا وزن سياسي لهم حتى ضمن مجتمعاتهم المحلية التي جاؤوا منها، وهم بأنفسهم اعترفوا أنهم لا يمثلون أياً من المكونات السياسية والدينية والعرقية التي ينحدرون منها. ففي عفرين تم اختيار تسعة أشخاص للمشاركة في المؤتمر، وهم لا يمثلون إلا أنفسهم، فما قيمة تمثيلهم في هذه الحالة؟ وكذلك كان الأمر في مناطق الجزيرة أيضاً، حيث شارك نحو عشرين شخصاً لم يمثل أحداً منهم أياً من الكرد أو العرب أو السريان أو الأرمن فيه.

الحقيقة الساطعة التي أثبتها المؤتمر أن جمعَ رهط من الناس لن يضفي أي قيمة على حل الأزمة السورية، فالأزمة لم تنتهِ برحيل النظام السابق، بل زادت الشروخ الاجتماعية بين مكونات الشعب السوري أكثر، وباتت عمليات القتل على الهوية الطائفية سيدة الموقف في العديد من المناطق السورية، وخاصة بين العلويين في الساحل السوري. والمؤتمر ذهب بالأزمة السورية إلى مرحلة خطيرة جداً، قد لا يتمكن أحد أن يتدارك سقوط سوريا في مستنقع أشد قتامة، وينقذ البلاد من بين فكي مشاريع أخرى تُرسم لسوريا في أكثر من عاصمة غربية وعربية، ومثل هذه “الزعبرات” السورية اللا مسؤولة تساهم في إمكانية تنفيذ تلك المشاريع على أرض الواقع، وتُسبغ عليها المشروعية تحت عناوين وشعارات متعددة.

التصريحات الصادرة من إسرائيل، التي تروّج لمشاريع “فدرلة وتقسيم سوريا” لا يمكن ألا نأخذها على محمل الجد، لطالما أن إسرائيل قوة أساسية في رسم مشروع الشرق الأوسط الجديد على الأرض مع الولايات المتحدة. وسيطرتها على معظم مناطق الجنوب السوري، وتحذيراتها الأخيرة لحكومة دمشق الجديدة، تؤكد على نيّتها اقتطاع أجزاء من الأراضي السورية، وفرض سيادتها عليها. فيما الساحل السوري، ونتيجة عمليات القتل المستمرة على أساس طائفي، قد يدفعهم إلى الاستنجاد بكل من يمد لهم يد العون لحماية أنفسهم. وكذلك مناطق شمال وشرق سوريا، التي لم تلقَ استجابة حقيقية من قبل حكام دمشق الجدد في وقف العدوان التركي عليها، والحملات الإعلامية الموتورة المضادة للإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية من قبل بعض الأطراف الموالية لهم، قد تدفعهم لمراجعة حساباتها، رغم تأكيدهم أكثر من مرة على أنهم جزء من سوريا، وأنهم توصلوا إلى تفاهمات مع الإدارة الجديدة في حفظ وحدة الأراضي السورية وسيادتها عليها.

إن تصرفات الإدارة الجديدة وسياساتها الخاطئة قد تدفع الجميع للبحث عن حلول أخرى لقضاياها، وهي قد تكون مضطرة لاتباع سياسات من هذا النوع، لا ترفاً، بل نظراً لحالة التهميش والاستفراد بمصير البلاد من قبل إدارة دمشق الجديدة، فيما المفترض أن يشارك الجميع في تحديد مصير بلادهم، طالما أنهم سوريون وجزء من الوطن السوري.

تجاهل الرسائل التي تصل من عدة مناطق سورية، وخاصة من الساحل والسويداء، وكذلك من إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، قد تضع سوريا مجدداً في فوهة بركان، يصعب إخماد أوّاره، وتفتح عليها أبواب الجحيم. ويبدو أن القيادة السياسية السورية تعيش شهر عسل الظفر بالسلطة في دمشق، ولا تلتفت إلى تلك المخاطر الجدية المحدقة بالبلاد، وتنساق وراء مخططات تركيا وقطر والإخوان المسلمين في جمع كل التيارات الإسلاموية حولها، راسمة صورة تخيلية في ذهنيتها الإقصائية المريضة المشبعة بالإنكار؛ بأنهم الأغلبية، ويحق لهم ما لا يحق لغيرهم للتصرف بمصير البلاد، والعمل بالمقولة الممجوجة “من يُحرّر يُقرّر”. وفي جردة حساب بسيطة يمكن اكتشاف أن من يدّعون تشكيلهم “الأغلبية” ما هم إلا أقلية، وفق الحسابات السياسية. فالكرد والعلويين والدروز والإسماعيليين ومعظم المسيحيين والأرمن والسريان، إضافة إلى قسم كبير من “السنة”، بمجموعهم يشكلون نسبة تفوق ستين بالمئة من مجموع سكان سوريا، وهم بغالبيتهم يعارضون الإجراءات التي تلجأ لها الإدارة الجديدة في دمشق، لتحديد مستقبل سوريا، وإقصائهم لهم. وبالتالي لا معنى للذريعة التي تتبجح بها بعض الأطراف الموالية للإدارة الجديدة بأنها تشكل “الأغلبية”، وأن “الأقلية ستخضع لقرار الأغلبية”. بالتأكيد ستكون لهذه المعارضة – التي تشكل الأغلبية بمجموعها – وزنها وثقلها في المعادلات السياسية مستقبلاً، ومهما تهربت منها الإدارة الجديدة. وبدأنا نشهد إرهاصاتها الأولية في أكثر من منطقة سورية.

كل الاعتقاد أن المؤتمر شكَّل امتحاناً أولياً للسلطة الجديدة في دمشق، ووضعها تحت المجهر، لجهة إظهاره خياراتها وتوجهاتها المستقبلية، فلم تنجح الإدارة فيه، بل مثَّل سقطة مدوية لها، حيث سقطت في فخ التفرّد بالقرار السياسي والاقتصادي وحتى العسكري، كما لم تنجُ من فتح شهية الدول المتربصة بسوريا على الإيغال أكثر في تمرير مشاريعها على الجغرافيا السورية، التي أقل ما يُقال عنها أنها معادية لمصالح الشعب السوري في استعادة وطنه لقراره السياسي والاقتصادي والعسكري المستقل، وإعادة بنائه على أسس سليمة، وبأيدي أبنائه.

ردود الفعل الرافضة للمؤتمر وتوصياته ومخرجاته، تعزز القناعة أن المؤتمر بحد ذاته لم يكن سوى واجهة لتمرير مشاريع أخرى. فعقده على عجالة والاستهتار واللغط الذي ساد جلساته، إضافة إلى حضور شخصيات هامشية قادمة من قِفْرٍ سياسي وفكري حولته إلى مجرد منصة للهو، فيما سادت أجواء كرنفالية عليه أكثر مما كان منبراً لمناقشة هموم السوريين، ووضع الحلول الناجعة لقضاياه وآلامه التي يئن تحتها منذ أكثر من أربعة عشر عاماً. والتوصيات التي خرج بها بخصوص تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد لسوريا، وكذلك تشكيل مجلس تشريعي مصغر، وطرحه عدد من الرؤى الاقتصادية، جميعها توصيات غير ملزمة للإدارة السورية الجديدة، الأمر الذي يدفع نحو التساؤل؛ بأنه يلزم السوريين مؤتمر حوار توافقي آخر لتصحيح ما خرّبه هذا المؤتمر وإزالة آثاره السلبية.

لم يرتقِ المؤتمر إلى تطلعات الشعب السوري في تكريس مبدأ الحريات العامة، وحفظ الأمن والاستقرار وإعادة البناء، بل شكّل نوعاً من البروباغاندا الإعلامية للحاكمين الجدد، على غرار ما يسمى “مؤتمر النصر”، ويبدو أن أحداً من السوريين لن يتذكر هذا المؤتمر غداً، مثل غيره من المؤتمرات التي عقدتها ما كانت تسمى المعارضة السورية السابقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى