مانشيتمقالات رأي

في أبعاد مشروع أوجلان لحل القضية الكردية – 1

محمود علي

ما تزال أصداء رسالة القائد عبد أوجلان تتفاعل في الأوساط الكردية والإقليمية والدولية، وبرزت تصورات مستقبلية حول مضمون الرسالة، وانعكاسها على القضية الكردية، وكذلك كيفية تعامل الكرد معها، خصوصاً حزب العمال الكردستاني وجناحه العسكري قوات الدفاع الشعبي.

لا شك أن رسالة أوجلان هي بمثابة نداء تاريخي لحركة حزب العمال ومعه الكرد وتركيا، وفي سياق الأفكار التي طرحها؛ إنما تعد مشروعاً جديداً، لجهة عناوينها ذات المضامين الواسعة، وأيضاً الحلول التي قدمها للقضية الكردية في واقع موازين القوى والتبدلات التي طرأت على المشهد العالمي والإقليمي.

إن القراءة الثاقبة التي قدمها القائد أوجلان لسمات العصر الراهن، والظروف التي أسس في حزبه، ومن ثم انهيار منظومات فكرية وسياسية وعسكرية كبيرة، إنما تؤكد قدرته على صياغة مشاريع تطويرية، ليس على صعيد حل قضية الشعب الكردي فقط، بل على مستوى المنطقة والعالم، وكذلك أثبت مرة أخرى إمكانية إجراء حركة تغيير جذرية ضمن حركة حزب العمال، من حيث التوجه والبنية التنظيمية والتوجه الفكري والإيديولوجي، وبالتالي إحداث ثورة، قد تغير معها البنية المفاهيمية لدى الحركة، وتنقلها إلى موقع أكثر تفاعلاً مع التطورات المتسارعة في كردستان والعالم.

من البلاهة والغباء أن تتم قراءة رسالة القائد أوجلان بتجرد، وفقط ضمن إطار التخلي عن السلاح والكفاح المسلح، وحل الحزب. كذلك الدخول في تأويلات وشروحات لا معنى لها سوى السفسطة ورصف الكلمات، أو إجراء تحليلات كيدية محملة بالحقد الأعمى تجاه الحركة أو القائد أوجلان، لا جدوى منها في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها قضية الشعب الكردي. بل ينبغي تقييم الرسالة بشكل موضوعي، بعيداً عن الإسقاطات الإيديولوجية والسياسية ضيقة الأفق، وتناولها ضمن إطار الحلول الممكنة للقضية الكردية وإشاعة السلام في المنطقة.

تجاوز أوجلان في طرحه الأطر الفكرية والسياسية التقليدية، ليبني نظرية تفضي إلى حل الكثير من القضايا الشائكة في كردستان وتركيا والمنطقة، فقد وضع النقاط على الحروف، ورمى بالكرة في مرمى النظام التركي، وأحدث زلزالاً سياسياً هز جميع النخب الفكرية والسياسية في تركيا، ووضعها أمام مسؤولياتها التي تُحتِّم عليها التجاوب معها بكل إيجابية، والشروع في إجراء تغييرات جذرية تمس بنية التفكير والعقل السياسي التركي، والمصالحة مع الكرد، والبدء بصفحة جديدة عنوانها الرئيس إزالة الغبن الذي ألحقته بالشعب الكردي وقضيته.

من المؤكد أن إرهاصات المرحلة الراهنة تمتد إلى أكثر من سنة من الحوارات المكثفة مع القائد أوجلان، وكذلك مع قيادة الحركة في قنديل، حيث توافدت وفود عديدة للتحاور معه في معتقله، ومن بينهم الرئيس أردوغان الذي التقى به على الأقل مرتين، فيما التقى به رئيس حزب الحركة القومية “دولت باهجلي” نحو ست مرات، فيما تقاطرت إليه وفود برلمانية وحقوقية، ومن الدوائر العليا لصنع القرار السياسي والقضائي والحقوقي في تركيا.

يمكن فهم فحوى الزيارات المكوكية للمسؤولين الأتراك للقائد أوجلان، بأن المشروع الذي أطلقه ليس وليد اللحظة، بل له استطالاته التي تمتد إلى أكثر من عام من الحوارات المكثفة معه، وتوصلهم إلى صيغة مشتركة ترضي الطرفين، وأولها حل القضية الكردية على أسس عادلة قانونية ودستورية واضحة، وهو ما أكد عليه القائد أوجلان في أكثر من موضع في رسالته.

التجاوب السريع للحركة وقيادتها في قنديل مع مبادرة الحل التي قدمها القائد أوجلان، يدل بما لا يدع مجالاً للشك أنها متمسكة بالخيارات السلمية لحل القضية الكردية، وليس لديها أي نزوع أو رغبة للاستمرار في النمط التقليدي للكفاح، وتملك من المرونة السياسية والتنظيمية بما يكفي التعامل بإيجابية مع الخيارات التي طرحها القائد، على العكس من ذلك، موقفه عزز من موقع القائد وأضفى عليه مزيداً من القوة، ليفرض شروطه على طاولة الحوار، ويلزم الحكومة التركية للتجاوب معها بندية.

إلا أن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه بقوة هنا؛ هل النظام التركي قادر على الرد بإيجابية على مشروع حل القضية الكردية الذي طرحه القائد أوجلان في رسالته، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تاريخ الدولة التركية الطويل الحافل بالإنكار والمجازر ورفضها المطلق للوجود الكردي، والتعامل مع الكرد وتطلعاتهم بمنتهى البربرية، ألا يُفترض بها أن تبادر، ومن باب حسن النوايا وتبادل الثقة، إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفي مقدمتهم صلاح الدين دميرتاش ورفاقه، للرد على عملية وقف إطلاق النار التي أعلنت عنها الحركة، وكذلك وقف عدوانها المستمر على روجآفا وشمال وشرق سوريا؟

وأهم من يعتقد أن تركيا انتصرت في هذه المعركة المصيرية، فالمعادلة التي وضعها القائد أوجلان أمام الجميع، أن الكل سيكون منتصراً وفق الرؤية ومشروع الحل الذي قدمه. فإن كانت الذهنية التركية تجد أنها انتصرت في هذه المعركة المستمرة منذ أكثر من أربعين عاماً، فهي مخطئة في قراءاتها وتقييماتها، وقد تدفع بنفسها للوقوع في مستنقعات وأفخاخ عديدة يُعِدُّ لها أكثر من طرف في المنطقة والعالم.

ورغم عدم صدور مواقف واضحة من قبل النظام التركي على مبادرة القائد أوجلان، سوى تصريح ضبابي مبهم من أردوغان، إلا أن السؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح؛ ما هي أهداف تركيا وراء التواصل مع القائد أوجلان، وهل هناك أيدي خارجية تضغط عليها لإرغامها على حل القضية الكردية، أم أنها أدركت المصير الذي ينتظرها في حال إصرارها على التمسك بمفاهيمها القديمة التي عفا عليها الزمن من الإنكار والتخندق ضمن مفهوم الدولة القومية؟

الثابت أن تركيا وبعد التحولات الجذرية في منطقة الشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2024، والحرب في غزة، ومن ثم الهزيمة التي تعرض لها حزب الله في لبنان وسوريا، ومعه المحور الإيراني، وتالياً سقوط نظام البعث في سوريا، تيقنت أنها باتت مهددة في أمنها واستقرارها وسلامة أراضيها، خصوصاً بعد استبعادها من جميع المشاريع الحيوية في المنطقة، مثل مشروع الممر الهندي. وجاءت موافقتها على التواصل مع القائد أوجلان بهدف تحصين نفسها ضد أي تحديات قد تتعرض لها في المستقبل القريب، والقضية الكردية، وإطلاق سراح القائد أوجلان وجميع المعتقلين، وتوفير الضمانات القانونية والدستورية للحل، تعد مفتاح الحل.

تساور الكثيرين مخاوف من انقلاب تركيا على مبادرة القائد، وعدم التزامها بأي تعهدات سياسية أو أخلاقية حيال السير في طريق الحل، ولعل تجربة عام 2013 هي الأقرب إلى الذاكرة، ويتميز أردوغان بالمناورة والانقلاب حتى على رفاقه المقربين منه، وهو ما يدفع العديد للتشكيك بمصداقية أردوغان ونظامه في الإقدام على إجراء تغييرات في تركيا، بل يذهب البعض للاعتقاد أن أردوغان يسعى فقط إلى كسب أصوات نواب حزب الشعوب والديمقراطية (DEM) لإجراء التعديل الدستوري في البرلمان ليتسنى له ترشيح نفسه لولاية رئاسية جديدة، وأنه لا يفكر ولا يقتنع بحل القضية الكردية مطلقاً.

من جانبه وضع حزب العمال الكردستاني شروطاً أساسية لإجراء التغييرات التي أوردها القائد أوجلان في رسالته، من بينها مشاركة أوجلان في المؤتمر بعد إطلاق سراحه، وأن التغيير المطلوب يتطلب وقتاً كافياً لإتمام التقييمات الشاملة على الصعيد السياسي والعسكري والتنظيمي. وهي شروط يجب أن يقبل بها النظام التركي إن كان جاداً في التوصل إلى سلام وحل جذري للقضية الكردية.

من يعتقد أن حزب العمال الكردستاني كحركة سينتهي بمجرد الإقدام على حل نفسه والتخلي عن الكفاح المسلح، فهو ساذج، ولا يدرك مدى القوة السياسية والشعبية التي يمتلكها في أجزاء كردستان الأربعة، وكذلك في الخارج، فتجربة التغيير ليست بالجديدة عليه. فبين أعوام 1999 و2005 أجرى الحزب عدة تعديلات تنظيمية وسياسية في صفوفه، حتى أنه في عام 2004 تخلى عن اسمه، وطرح عدة بدائل لنفسه، حيث تعرض الحزب لهزة تنظيمية وفكرية عنيفة إثر أسر القائد أوجلان، واعتقد العديد أنه سيتلاشى ويتشظى إلى عدة أجزاء، وبالفعل ظهرت بين صفوفه بعض الشخصيات التي حاولت اللعب بمصير الحزب، إلا أنه خرج من تلك المعركة الداخلية أقوى مما كان، ووضعه الراهن أفضل بكثير مما كان عليه في السابق. فالهيكلية التنظيمية للحزب لن يطرأ عليها أي تغيير، فقط سيغير اسمه، ويتخلى عن السلاح – طبعاً إن تحققت شروطه التي أعلن عنها – ليدخل معترك الحياة السياسية من أوسع أبوابه، مدعوماً بقاعدة شعبية كبيرة، ومن مختلف أجزاء كردستان والعالم.

إن ارتدادات مشروع الحل الذي طرحه القائد أوجلان لحل القضية الكردية على روجآفا وشمال وشرق سوريا، سنحاول تناوله في مقالنا اللاحق، خاصة أن روجآفا تتأثر وتؤثر في تطور معادلة الحل، وأن هناك عدة مسارات في مشروع أوجلان للحل، ومن بينها مسار روجآفا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى