فلسفة الوطن في نظرة الإسلام السياسي وتداعياتها

كمال حسين
تقترب فترة الثلاثة أشهر لانتهاء مهام حكومة الشرع الأولى، والتي حددتها لنفسها في اليوم الأول لسيطرتها على السلطة في دمشق، في أعقاب سقوط النظام السابق، وتقترب معها ظهور تجليات المرحلة المقبلة التي سعت إدارة الشرع إلى التمكين لها في حياة البلاد، هذه التجليات والقرائن التي لا تحيد عن مواصفات دولة الإمارة الإسلامية الداعشية الخطاب والطريق، وهذا النهج الذي سيحتم وضع الدولة السورية على سكة التقسيم الفعلي، والسكة التي باتت احتمالاتها أكبر من أي وقت مضى، وفق كل المؤشرات، ووفق ما تسجله المتابعات الإعلامية، ومراصد تتبع التصريحات والخرائط في عواصم صنع القرار المحلية والدولية، والتي كان آخرها كلام أعضاء في الكونغرس الأمريكي، والذي يفيد بأن التقسيم في سوريا أصبح خياراً حاسماً، ما لم يتم إبعاد المتطرفين الإسلاميين عن دمشق وإلى ما بعد إدلب.
أما كيف حصل ذلك؟ ومن الذي أنتج كل هذا الحطام في بنية الجسد السوري؟ فلا شك أنه جهد مبذول منذ سنين، ومتعوب عليه كثيراً، وتتحمله جهتان أساسيتان ومدرستان في التفكير السياسي الأولى، سلوك نظام الاستبداد القوموي المافيوي السابق الذي لم يسمح لأي أجنة أن تنمو في أحشائه غير اتباع الديانات والمذاهب ومروجي دور العبادة، والثانية وريثه وحليفه السري المتواطىء الإسلاموي الطائفي الحالي، أما كيف حصل ذلك؟ وكيف كان يجري توريط الجماهير للضلوع في تخريب الوطن، وفي انحراف الروح الوطنية عن مسارها؟ فحينما لا تستطيع الشعوب أن تنتج ثورتها الوطنية بأبعادها الاجتماعية والأخلاقية، لعدم نضج الظروف والإمكانيات، تجري التفافاً أو مداورة بطرق ملتوية للوصول إلى أهدافها، وقد تضحي في حالة يأسها بالوطن أحياناً أو تكفر به.
وعلى هذه القاعدة النفسية من حالة انسداد الأفق في التغيير السلس، قد يكون “ماركس” استنتج دور الاستلاب والتهميش حين وضع مقولته الشهيرة “البروليتاريا لا وطن لها”، فالمستلب كما هي الجيوش الجائعة، لا يدافع عن وطن، لا ينعم فيه بالدفء والكرامة، أما كيف تلتف الشعوب على سياسة حكامها فالأمثلة والشواهد كثيرة.
فحينما كان الناس على سبيل المثال يفترشون الأرصفة ومنصفات الشوارع ليؤدوا واجب الصلاة؛ لم تكن الرغبة في الصلاة دوماً هي الدافع، إنما كان هذا السلوك في جذوره يعكس احتجاجاً سياسياً من قبل الشارع الإسلامي على النظام القائم، باعتبار أن هذا السلوك يعد أمراً متاحاً، واليوم ما من شك في أن فئات الشعب السوري العاجزة عن إدراك ثورتها المدنية الديمقراطية لن تعدم الوسائل للالتفاف على عجزها في مواجهة واقع لا تقوى مباشرة على مواجهته، وقد ترتأي في طريقها نحو حلمها في التغيير أي خيارٍ تأخذه طريقاً أو مخرجاً.
تخون الشعوب في الكثير من الأحيان أو تكفر بأوطان فصلت على غير قياسها، أو تضيق بأحلامها، ولم يجانب الكاتب الشهير محمد الماغوط الحقيقة في شيء حين لخَّصَ فعل مشاعر الاستلاب على الإنسان المقهور في رائعته الشهيرة “سأخون وطني” فغياب العدالة في الوطن، والتمييز بين مكوناته، وخاصة حينما يكون هذا التمييز عرفاً تتبناه قطاعات واسعة دون مراجعة في صوابيته أو انسجامه مع قيم العصر، أو حينما يكون هذا التمييز مكرساً في قانون الدولة العام، أو في دستورها الذي جاءت به معادلات عقود ماضية مثيل الحالة التركية التي لا تعترف بهوية مكوناته، أو اللبنانية التي تحصر شغل المناصب الأساسية في الدولة لمكونات دون غيرها، أو كما هي الحال في الدولة السورية في حقبة النظام السابق، والوضع الأسوأ الذي آلت إليه، وفي أغلب الدول التي تعتمد ديناً معيناً أو هوية عقائدية للدولة.
يتصل كل ذلك بمفهوم سياسي إشكالي دارج هو مفهوم الأقلية والأكثرية الطائفية أو العرقية، حيث لا يوجد مثله عامل يدخل التأثير واللبس على مفهوم الوطن، وعلى الشعور بالانتماء إليه، وفي الحقيقة هو في بلداننا وبخاصة في وطننا سوريا له وقع خاص، وله جذورٌ متأصلةٌ ومفاعيل سلبية كبيرة، ولا جِدال بأن منبته يعود إلى مرحلة الاستعمار العثماني، الذي كان أول من وظف الأكثريات الدينية والطائفية في مواجهة تمرد الأقليات، وبالمثل أعاد استثمار عقدة اضطهاد الأقلية للنيل من ثورات الأكثرية، أما استمرار المفهوم كانطباع قائم في حياة المجتمع حتى الآن؛ فما من شك بأنه كان دلالة على شيئين الأول، فشل الدولة الوطنية أو غيابها، والثاني، انحدار المجتمع أو عدم صلاحيته أو نضجه بعد، لتكوين دولته الوطنية، وعلى أرضية هذا الفشل كانت تنشأ الحاجة في العرف الدولي إلى وضع بعض التكوينات تحت الوصاية أو الحماية الدولية.
إلى ذلك، وعند محاولة تطبيق هذه القاعدة على المجتمع السوري في هذه اللحظات، فبكل أسف تقول أي قراءة موضوعية أن النتائج كارثية، حيث لا تخفي الأغلبية من نخب المثقفين العرب المسلمين السنة أن أكثريتهم لها أحقية موضوعية، وهذه الأحقية كانت مُستلبة منهم، وأكثريتهم ضحية تآمر دولي لمصلحة الأقليات، وبأن لا قلق كبير لديهم من خطر الداعشية، وبأنه خطر مبالغ به، ويمكن السيطرة عليه، ويقول لسان حالهم أن أسلمة الحياة السياسية والثقافية في هذه المرحلة أمر لا يتعارض مع المصلحة الوطنية، وبأنهم لن يكرروا أخطاء الماضي في إشارة إلى آخر ثلاثينيات القرن الماضي، يوم دعا رواد الثورة السورية ضد الفرنسيين، سلطان باشا الأطرش، والشيخ صالح العلي ووقع وجهاء العلويين بعد ذلك وثائق الاندماج في الدولة الوطنية ومؤسساتها العسكرية والأمنية في دمشق، مقابل التخلي عن الدويلات الطائفية والمناطقية التي كانت ممنوحة من سلطات الانتداب، ولن يكرروا ما يسموه أخطاءً كبيرة وقعت في محطات تالية؛ كالذي حصل في أواخر الخمسينيات، وبكلام صريح لا يجوز في سوريا اليوم توزير الأقليات في إي وزارة سيادية ريثما تنضج أو تترسخ بحسب نظرهم؛ قواعد الدولة في إعلان صريح على أنهم هم وحدهم ضمانة الدولة، والآخرون لم يؤهلهم أداؤهم في المراحل السابقة على حمل لقب المشارك في الثورة.
بمعنى الآن يضعون الأقليات في وضع من هو بحاجة إلى وثيقة حسن سلوك وطنية، هكذا تفكر الطبقة الحاكمة الآن، وهكذا يفهم جمهورها، ويتشرب مفهوم الأقلية والأكثرية، وبدم بارد، ودون أي وازع من خوف، أو حساباً لمشاعر المكونات العرقية والدينية الأخرى، وبتبسيط لا يعير بالاً لتطورات العصر، ومتغيرات العقل والثقافة يفصلون الوطن، ويدفعون من لا يقف معهم إلى أن يتدبر أمره.