اتفاقية عبدي – الشرع.. وحل القضية الكردية

محمود علي
جاء توقيع الاتفاقية بين قائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” والرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع” في مرحلة مفصلية وهامة في عمر الأزمة السورية، وتزامن مع الحملة التي شنتها قوات الأمن العام ضد فلول النظام السابق في الساحل السوري، والتي تحولت إلى حملة تطهير مذهبية وطائفية وحشية ضد الطائفة العلوية، بعد التحشيد الطائفي من قبل عدة مجاميع تكفيرية غوغاء، حيث راح ضحيتها آلاف المدنيين، نساء وأطفال، كبار في السن ورجال أبرياء لا يمتون للنظام السابق بأي صلة.
لا شك أن حيثيات الاتفاقية وظروفها، دفعت كلا الطرفين للإسراع في التوقيع عليه، فضلاً عن دور إقليمي ودولي واضح في المساهمة للوصول إلى هذه الاتفاقية التي تعد “تاريخية”، وعلى أكثر من صعيد. إن “الشرع” المتهم بالوقوف وراء حملة الإبادة ضد العلويين في مناطق الساحل السوري، أو على الأقل فقدانه القدرة على ضبط المجاميع المنفلتة من كل الضوابط والقواعد العسكرية والأخلاقية وحتى الدينية في التعامل مع فلول النظام، ومن ثم انزلاقها إلى مستنقع ممارسة الإبادة الشاملة، وجد نفسه خائر القوى لا يمتلك ما يلجم بها تلك المجاميع المحمّلة بالحقد الطائفي والمذهبي والانتقام، فلم يجد أمامه إلا القبول بشروط (قسد)، لعله يستعيد أنفاسه، ويفرض سيادة الدولة السورية، ويوقف عمليات القتل والإبادة.
فيما وجد “عبدي” في الاتفاقية نافذة لوقف هجمات دولة الاحتلال التركي ومرتزقته على مناطق شمال وشرق سوريا، خصوصاً إيقاف الهجمات المستمرة على مناطق سد تشرين وجسر قره قوزاق. إضافة إلى نيل الاعتراف من أعلى سلطة في الدولة السورية بالإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية و”المجتمع الكردي”، وهو ما لم يتحقق في فترة حكم النظام السابق.
رغم البراغماتية التي تلف مقاربات الطرفين من الاتفاقية؛ إلا أنه في النهاية يخدم عملية إرساء الأمن والاستقرار المفقودين في سوريا، ويعزز الثقة بين جميع الأطراف السورية للمشاركة في إعادة بناء وطنهم، وفق أسس وطنية لا تهمش أياً من المكونات السياسية والإثنية والدينية منها. فرغم الانتقادات التي وجهت للاتفاقية من قبل البعض؛ إلا أنه يظل بوابة العبور نحو قطع الطريق على حرب أهلية كارثية تهدد السوريين ومستقبلهم، حيث عبر معظم السوريين، وعلى اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية والإيديولوجية، عن فرحتهم بها، واعتبروها بمثابة أول إنجاز يتحقق بعد سقوط النظام السابق.
لا يمكننا تناول جميع المواضيع التي جاءت في بنود الاتفاقية بالتفصيل خلال هذه العجالة، فهي تتطلب المزيد من التحليل والشرح حول مآلاتها، إضافة إلى ضرورة كشف أبعادها السياسية والعسكرية والاقتصادية والمجتمعية، وكذلك إمكانية تنفيذها على أرض الواقع والتزام جميع الأطراف بها، ولكن يمكن تحليلها في إطارها العام دون الخوض في تفاصيلها، لكي لا نقع في سوء الفهم والتفسير المغلوط.
أول قضية أثارت الجدل والنقاش حولها من قبل البعض هي ورود “المجتمع الكردي” بدلاً من “الشعب الكردي”، وهي تشكل نقطة لافتة في الاتفاقية، ولكن علينا ألا نحمل الاتفاقية أكثر مما تحتمل، فهي في النهاية اتفاقية مبدئية و”بالأحرف الأولى”، حسب توصيف القانون الدولي، إضافة إلى أنها تأخذ منحى عسكرياً أكثر مما هي سياسية، رغم ورود بعض البنود التي جوهرها سياسي، وبناء على ذلك لا يمكن الجزم بأنها اتفاقية نهائية حُدِّدَ فيهِ مصير الشعب الكردي، وشكل وجوده السياسي في روجآفاي كردستان وسوريا، بل هو مقدمة جيدة نحو وضع صياغات أكثر ديمقراطية وعدلاً لتمثيل الكرد كشعب يعيش على أرضه التاريخية، على أن يتم البت بهذه المسألة السياسية المصيرية لاحقاً، من قبل وفد سياسي يمثل الشعب الكردي، وعلى طاولة حوار وطني، وليس في اتفاق جرى الإعداد له على عُجالة، نظراً لتسارع الأحداث وتشابكها على كل الأصعدة. فيمكن إطلاق صفة “اتفاقية إنقاذ أو اتفاقية الضرورة” عليها، لأنه أنقذ سوريا من مصير مجهول. فإن كان مصطلح “المجتمع” مرتبط بمجموعة ما لها ثقافتها الخاصة بها تعيش ضمن مجموعة أخرى أكبر، فإن مصطلح ومفهوم “الشعب” يرتبط بالأرض، أي أنه صاحب الأرض التي يعيش عليها، ولا أحد يستطيع أن يتنكر لهذه الحقيقة التاريخية والجغرافية بأي شكل من الأشكال، وعدم ورود مصطلح “الشعب” في الاتفاقية، لا يعني البتة إنكار وجوده، مثلما يزعم البعض، بل يؤكد أنه جزء أصيل من المجتمع السوري الكلي، وهو ما أكدت عليه الاتفاقية بضرورة الاعتراف بحقوقه الدستورية. كما أن هذه المسألة لن يتم حسمها إلا من قبل الأطراف السياسية، أي أنها مسألة تفاوضية قد يطرأ عليها الكثير من التعديل والتغيير في الأيام القادمة، لطالما أن هناك العديد من الملفات والقضايا الأخرى بحاجة إلى مزيد من النقاش والحوار حولها، ليس ضمن اللجان الثمانية التي ستشكل بموجب الاتفاقية فقط، بل ضمن مؤتمر وطني شامل يمثل جميع السوريين بمختلف أطيافه. كما أن الكل يترقب تشكيل وفد كردي ضمن وفد للإدارة الذاتية يتوجه إلى دمشق، لإطلاق حوار شامل حول جميع القضايا والملفات، وأولها القضية الكردية وحلها.
كما أنه يسجل لقوات سوريا الديمقراطية وقائدها الجنرال “مظلوم عبدي” أنه أقنع الطرف الآخر بشكل إدماج قوات (قسد) ضمن الجيش السوري المستقبلي ككتلة، وليس حل قواته ضمنها كأفراد، وهذا القرار يسري على مؤسسات الإدارة الذاتية أيضاً، التي ستكون جزءاً من الإدارات والوزارات العامة في سوريا، وستحافظ على هيكليتها الإدارية والمؤسساتية، فيما قضايا النفط والمعابر والجمارك وما إلى ذلك ستتكفل اللجان المنبثقة عن الاتفاقية بحلها.
كذلك قضية وقف الاقتتال على الساحة السورية، يعتبر البند الأصعب أمام الطرفين، في ظل تعنت بعض الأطراف التي هرولت في بداية سقوط النظام إلى تقديم فروض الطاعة للشرع، ومن ثم تنصلت من التزاماتها بحل نفسها ضمن قوام وزارة الدفاع، وعادت تمارس أفعالها وممارساتها السابقة، وأغلبها الآن تشارك في حملات الإبادة ضد الطائفة العلوية في الساحل. ومرد هذا الانقلاب على نفسها وعلى تعهداتها الدعم الذي تلقتها من بعض الدول الإقليمية، وهي تشكل مرضاً مزمناً في الساحة السورية لطالما ربطت مصيرها بأجندات تلك الدول والأطراف الداعمة لها، ومع أول امتحان سقطت – كما سقطت سابقاً – في إمكانية أن تصبح قوى فاعلة في بناء سوريا، بل على العكس من ذلك، سيكون من أولى مهام الدولة السورية بعد الاتفاقية وضع حد لتصرفات وممارسات هذه الميليشيات المنفلتة من عِقالِها.
ففيما رحبت معظم الدول العربية والغربية بالاتفاقية، واعتبرتها بداية لدخول سوريا مرحلة الأمن والاستقرار، فإن تركيا التي ما يزال موقفها ضبابياً، وتعول على فشلها حتى قبل أن يجف حبرها. فبعد توقيع الاتفاقية عمدت إلى تصعيد هجماتها على مناطق شمال وشرق سوريا، وخصوصاً على سد تشرين وجسر قره قوزاق، فهل ستصمد الاتفاقية أمام الطموح التركي الجامح بالسيطرة على كل مقدرات الدولة السورية بما فيها قراراتها السياسية والعسكرية؟، أم سيتمكن الشرع، وبحكم علاقاته الوثيقة مع تركيا، من ممارسة الضغوط عليها مدفوعاً بدعم عربي ودولي واضح، وحملها على وقف عدوانها، وتالياً سحب قواتها من الأراضي السورية. يدور اعتقاد لدى العديد بأن الاتفاقية أحدثت شرخاً في علاقات الشرع مع تركيا، ومن المفترض أن يترك مسافة بينه وبينها، ويرسم حدوداً لها. فحسب بعض المصادر الإعلامية أن لتركيا دور في التوتر الذي يشهده الساحل السوري، وهذا التدخل السلبي يأتي في سياق محاولة إضعاف الشرع ليبقى تحت سيطرته، إلا أن الاتفاقية منحته جرعة قوة، يمكن له من الآن فصاعداً أن يتعامل مع تركيا بندّية وكدولة وليس كما كان الوضع في إدلب.
فإن كانت بعض الجهات تتهم “الشرع” بوقوفه وراء عمليات الإبادة في الساحل، فيتوجب عليه أن يخرج أمام الرأي العام ويتبرأ من تلك الجرائم، ويتصرف كرئيس دولة وليس كرئيس لـ”هيئة تحرير الشام”، ويتعامل مع السوريين على قدم المساواة، وينزع عن نفسه شخصية “أبو محمد الجولاني” السابقة، إن كان صادقاً في وعوده وتصريحاته التي يطلقها مراراً.
وإن كان الكرد ومعهم جميع السوريين قد احتفوا بالاتفاقية؛ فالمؤكد أن تنفيذ بنودها سيواجه مصاعب عديدة، وأولها الذهنية التي تحملها بعض الأطراف المعارضة له، إضافة إلى التركة الثقيلة من الأحقاد والكراهية التي تراكمت طيلة سنين الأزمة السورية، وزادت عليها المجازر الأخيرة في الساحل، فهي – أي الاتفاقية – تواجه استحقاقات وطنية كبيرة، ولكن قدرة قوات سوريا الديمقراطية وامتلاكها تجربة طويلة في التعامل مع مختلف الملفات الشائكة والمعقدة، كفيلة بقطع الطريق أمام كل الفتن والتدخلات، وإيصال سوريا إلى بر الأمان، وهو ما يعوّل عليه السوريون جميعاً.