مقالات رأي

أبعاد دخول قافلة إغاثة الإدارة الذاتية الساحل السوري


محمود علي
المتتبع لمسار وحيثيات المجازر وعمليات القتل على الهوية الطائفية في مناطق الساحل السوري وبعض أرياف حمص، يتأكد أن سوريا ما أن خرجت من نفق حتى دخلت آخر أشد ظلمة وحلكة، وقد تعيدها إلى المربع العنفي الأول.
يُفهم من سيرورة الأحداث المتتالية وتفجير الأوضاع في الساحل، وعلى كل المستويات السياسية والعسكرية والمجتمعية، أن القوى التي تقف وراءها والمحملة بالحقد الطائفي والمذهبي، لا تبالي بعواقب قتل المدنيين الأبرياء، رغم أنها وفي لحظة بداية اندلاع الأحداث، تجاوزت عمليات الرد على أنصار وفلول النظام البائد، ومقاطع الفيديو الموثقة من قبلهم تدينهم دون الحاجة إلى تشكيل لجان تحقيق أو ما شابه ذلك. عمليات التوثيق والأحاديث الدائرة معها، تشير إلى أن مرتكبي تلك الأفعال الشنيعة في حِلٍّ من أي محاسبة قانونية، ويمنحون أنفسهم الحق في القتل والتصفية، استناداً إلى معتقداتهم المذهبية والطائفية.
موقف حكومة دمشق إزاء تلك الأحداث كان ولا يزال ملتبساً ويلفه الغموض، ما فسره البعض عن مشاركتها فيها، ولو بشكل موارب، واعتبرته بعض الأطراف أنها لا تتبنى تلك العمليات مخافة انعكاساتها الخارجية وليس الداخلية، رغم أن الرئيس “الشرع” شكل لجنة للتحقيق، إلا أنها لم تشكل مصداقية لدى الشارع السوري، الذي يتهم “هيئة تحرير الشام” بالوقوف وراءها، خاصة أنه – أي الشارع السوري الشعبي – يقارنها مع تاريخها السابق وإقدامها على تنفيذ هكذا نوع من الأعمال.
في ظل الحصار المطبق المفروض على مناطق الساحل، وحالة النزوح والتشرد في الجبال لمن سلم من عمليات القتل، ويبدو أن الكل هائمون على وجوههم في البراري، وفي حين عدم دخول أي منظمة إنسانية إليها، تمكنت الإدارة الذاتية من كسر الحصار والوصول إلى المناطق المنكوبة، وتوزيع المساعدات الإغاثية على الأهالي الذين تقطعت بهم السبل، خاصة أن معظمهم من كبار السن، حيث جرى قتل معظم الشباب، أو أن ما تبقى منهم هربوا إلى مناطق بعيدة للنجاة بأرواحهم.
هناك عدد من الأسئلة تطرح نفسها هنا؛ هل فعلاً لم تتمكن أي منظمة إنسانية إغاثية من دخول تلك المناطق، خاصة أن سوريا تعج بتلك المنظمات، أم أن هناك حسابات سياسية متعلقة بعمليات الإبادة التي نفذت في مناطق الساحل؟ فهل المنظمات الأوروبية والأمريكية عاجزة عن الضغط على حكومة دمشق لفتح الطريق أمامها؟ وإحجامها عن دخول تلك المناطق، ألا يفيد بأنها متناغمة مع مرتكبي تلك الجرائم، أو على الأقل أن صمتها وعدم تحركها يشي برضا ضمني عنها؟ ولماذا لم نسمع صوت المنادين بسوريا واحدة متنوعة، ولماذا لم تشرع في تشكيل ضغط شعبي عام لحمل حكومة دمشق على التدخل وإيقاف تلك المجازر، وتالياً إدخال الإغاثات الإنسانية إلى تلك المناطق؟ أم أنهم فقط يجيدون التشدق بالكلمات المنمقة وحضور المؤتمرات وترديد الشعارات الفارغة؟ لماذا لم يتحرك لديهم الحس الإنساني وينقذوا أناساً يقتلون بكل بشاعة ولا أحد ينقذهم؟
الحقيقة الساطعة والمرة أن المجتمع السوري محمل بالكثير من الموبقات والأحقاد، ويبدو أنه بحاجة إلى قرن من ممارسة الديمقراطية والتراكم الثقافي والإنساني كي يتحرر منها، ولا يمكن أن نلقي بالمسؤولية كلها على العناصر الأجنبية القادمة من الخارج، أو نحمل الأطراف الإقليمية والدولية وزر تلك الأفعال الشنيعة. في أي إطار يمكن أن نفهم الدعوة إلى ما يسمى “الجهاد” ضد ما أسموهم “العلويين” في المساجد، ألا ينم هذا التوجه عن شرخ كبير في المجتمع السوري، وينبئ بمستقبل خطير جداً إن لم يتم تدارك اللحظة الراهنة؟ ألا يجدر بالنخب السياسية والفكرية أن تبادر إلى طرح مشروع المصالحة الوطنية، وإشراك حكام دمشق الجدد فيه، والعمل على هذا المسار، داخلياً وإقليمياً ودولياً؟
ما هو مؤكد أنه لا يمكن إنقاذ سوريا إلا من خلال هذه المصالحة الشاملة، ولا يتوهم أحد أنه سينتصر أو سيتمكن من الاستفراد بالسلطة في ظل الأوضاع المثقلة بالتناقضات والصراعات والانقسامات الطائفية والمذهبية. فإن كانت الاتفاقية الموقعة بين قائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” والرئيس “أحمد الشرع” قد أحيت الآمال لدى السوريين بالسير نحو سوريا موحدة تشاركية وتعددية، وفتحت ثغرة كبيرة في جدار الأزمة المستفحلة والمتفجرة على كل المستويات، فإن ما تم في الساحل السوري، وكذلك الإعلان الدستوري، بدد تلك الآمال، على العكس خلقت حالة حادة من الانقسام والشرخ، وبات كل طرف يبحث عن حل له خارج الحدود السورية لدعمها وتثبيت وجودها من حيث أن الإعلان الدستوري رفض حقوق معظم المكونات، وفرض لوناً واحداً على سوريا، وربما بشكل يوازي النظام البائد، إن لم يكن أسوأ منه، من حيث التوجه الطائفي وتثبيته في السلطة عبر الإعلان الدستوري.
جميع السوريين باتوا يعلقون آمالهم على الإدارة الذاتية لإحداث تغيير في توجهات حكومة دمشق الأحادية، بما تملكه من إمكانيات سياسية واقتصادية لفرض معادلات التوازن، ولتغدو مركز جذب واستقطاب لكل السوريين، على مختلف انتماءاتهم السياسية والمذهبية والدينية والإثنية. فنداءات الاستغاثة التي وجهها أهل الساحل قبل وبعد تعرضهم للمجازر، خير دليل على أن عيون معظم السوريين لا تزال ترنو إلى الإدارة الذاتية لإنقاذ سوريا من الانزلاق إلى حرب طائفية لا نهاية لها. قافلة الإغاثة المرسلة من الإدارة الذاتية، لها دلالاتها السياسية قبل الإغاثية والإنسانية، ويمكن البناء عليها في بناء آليات التواصل مع جميع المكونات والمناطق السورية، إن كان في الجنوب أو مراكز المدن الكبرى. والإدارة الذاتية، ومن خلال علاقاتها السياسية والدبلوماسية القوية في الداخل والخارج، لديها الإمكانية في تحقيق هذه المعادلة، وبالتالي فرض حقائق جديدة ومغايرة، ووقف القتل والتصفية على الهوية والانتماء الطائفي والمذهبي. فمثلما تمكنت من إيقاف حملات التحريض ضدها عبر اتباع أسلوب سلس وسياسة مرنة، بالتأكيد لديها في جعبتها العديد منها، وهي لا تعدم الوسائل وتقنياتها.
إن بناء جسور الثقة بين السوريين، تعد الخطوة الأولى للخروج من الأزمة والتحرر من تبعات وتركة المرحلة السابقة، ولتقويم المسار الوطني والديمقراطي في سوريا. فلقد ثبت بالدليل القاطع أنه حتى بالنسبة للقوى التي تقف وراء التحريض الطائفي لم تجنِ أي فائدة سياسية من وراء عمليات الإبادة والقتل في الساحل، وهذا يعيدنا إلى جادة التفكير بعدم جدوى أي اقتتال في سوريا، بعد أن تنفس السوريين الصعداء بطي صفحة الماضي والقتل، وهذا لن يتحقق إلا من خلال حوار وطني بين السوريين أنفسهم، وليس على شاكلة الحوار المشوه والممسوخ الذي أطلقه حكام دمشق الجدد، والذي لم يكن سوى ارتداد صدى أصواتهم، وكان يفترض أن يكون شاملاً يضم ممثلي جميع المكونات السورية، وتأكد فشل الحوار ومخرجاته من خلال المجازر المرتكبة في الساحل، ولو أنه كان يمثل جميع السوريين وهناك إجماع حوله، لما تجرأ أحد على ارتكاب تلك المجازر بدم بارد، ودون أية محاسبة، حيث لا يزال مرتكبوها طلقاء، على العكس يُفهم أن هناك محاولة للتغطية عليها ودفن سوريا في مخرجات الحوار والإعلان الدستوري مثلما تم دفن الضحايا بطرق ملتوية.
كما لعب الإعلام الخارجي دور الشريك في تلك الجرائم، تحت مزاعم ملاحقة فلول النظام البائد، فلم يكن نزيهاً ومحايداً بالمطلق، بل كان له دور كبير في تبرير تلك الجرائم، ونشر معلومات مضللة للرأي العام تشوه الحقائق على الأرض وتقف مع القاتل ضد الضحية، وفقدت معها مصداقيتها الإعلامية والإنسانية، وتعاملت مع الأحداث بشكل منحاز، لتلبي سياسات الأطراف الداعمة لها. فحجم الضخ الإعلامي التحريضي والطائفي، كان كافياً للتغطية على الجرائم، وتدفع القتلة للإيغال أكثر في جرائمهم، دون أي رقيب أو حسيب، وهذا هو ديدن الإعلام الخارجي الذي ما انفك عن اتباع أساليب التحريض وإشعال الحرائق في سوريا، ومنذ بدء الأزمة السورية قبل أربعة عشر عاماً.
مثلما فشل النظام البائد تحقيق النصر في حربه على شعبه طيلة عمر الأزمة، كذلك لا يمكن لأحد أن يواجه إرادة الشعب، ومهما كان يمتلك من أسباب القوة أو يتكل فيها على القوى الخارجية، وهذا يجب أن يُتَّخَذَ عبرة لكل الأطراف الساعية إلى فرض لونها الأحادي على سوريا، وحسب السوريين الاقتتال الداخلي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى