مانشيتمقالات رأي

في الأبعاد السياسية لاتفاق حيَي الشيخ مقصود والأشرفية مع دمشق

محمود علي

جاء الاتفاق الأخير بين المجلس العام في حيي الشيخ مقصود والأشرفية واللجنة الممثلة لرئاسة الجمهورية في مجلس محافظة حلب، كجزء متمم للاتفاقية التي وقعها قائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال “مظلوم عبدي” مع الرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع” في العاشر من الشهر الماضي.

البنود الأربعة عشر لاتفاق حلب؛ تضمنت خطوات هامة من شأنها تعزيز الثقة بين الطرفين، وربما تشكل امتحاناً للطرفين، وتكشف نواياهما للاستمرار بالالتزام ببنود الاتفاقية الموقعة بين “عبدي – الشرع”، حيث أن تبادل الأسرى، وانسحاب وحدات حماية الشعب والمرأة من حيي الشيخ مقصود تشكل مفصلاً مهماً وجوهرياً لتعزيز تلك الثقة، وتفتح الطريق أمام البدء بتنفيذ الخطوات والبنود الاثني عشر التالية، وهو بدوره يمهد لتنفيذ البنود الأساسية في اتفاقية العاشر من مارس/ آذار.

لن ندخل في تفاصيل تلك البنود، وما يهمنا هو انعكاس الاتفاق والتفاهم على الوضع السياسي والعسكري العام، وما خلقه من أجواء إيجابية، شعرت جميع الأطراف معه بالارتياح، واعتبرتها أنها الخطوة التي كان ينتظرها السوريون بفارغ الصبر منذ أكثر من أربعة عشر عاماً.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، وكما أن الحب من طرف واحد لن يُكتب له النجاح؛ فإن عدم إقدام حكومة دمشق على تنفيذ أي من التزاماتها وفق بنود الاتفاقية، قد يعرض الاتفاقية برمتها للاهتزاز، وعدم ثقة الأطراف الأخرى بها، ويدفع الجانب الآخر – أي قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية – إلى إعادة حساباتها. فعملية وقف إطلاق النار المزمع الإعلان عنها بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات الاحتلال التركي والمرتزقة التابعين لها، جاءت في إطار وساطة وجهود أمريكية وفرنسية مشتركة، ولم يكن لحكومة دمشق دور رئيسي فيها، رغم أنها الطرف المعني بفرض عملية وقف إطلاق النار، حيث من المفترض أن تبسط سيادة الدولة السورية على كامل الأراضي السورية وفق الاستحقاقات الوطنية، وتُلزم القوى الأخرى بقراراتها وخاصة وقف إطلاق النار، ولكن يبدو أنها لا تملك تلك الإرادة في فرض شروطها على دولة الاحتلال التركي، أو أنها مترددة وتبحث عن مصلحة لها هنا أو هناك، أو تحاول التسلل من مسامات الخلافات والصراعات الموجودة في الساحة، نزولاً عند مصالحها الضيقة، أو تمارس سياسة الكيل بمكيالين ولا تريد “إزعاج” قادة المرتزقة، وهذا قد يفقدها المصداقية ويضعف من رؤيتها المستقبلية لتمثيل الشعب السوري بمختلف مكوناته.

كما أن ملف عفرين وعودة المهجّرين القسريين إليها، يشكل ملفاً عاجلاً أمام حكومة دمشق يتطلب حله، ولم تبدِ حتى الآن أية خطوات عملية في حلحلته، وبالتالي لم تفتح المجال أمام عودة أهالي عفرين الأصليين المهجرين بفعل الاحتلال إليها، حيث لا تزال عفرين تئن تحت ممارسات فصائل المرتزقة، التي تحتفظ بكامل هيكليتها في قرى ونواحي ومركز مدينة عفرين، والخطوات الخجولة في نشر بعض أفراد الأمن العام، لن ينهي الاحتلال ويخرج المرتزقة وعوائل المستوطنين من منازل أهالي عفرين، الذين يتطلعون بفارغ الصبر إلى فرض وقائع جديدة، أولها إنهاء الاحتلال بكل أشكاله ومرتسماته، والتمهيد لعودة مشرّفة للمهجّرين القسريين، ودفع التعويضات عما لحقت بهم من خسائر مادية، وقبل هذا وذاك؛ تبييض سجون الاحتلال والمرتزقة من أهالي عفرين، المعتقلين ظلماً وعدواناً ودون وجه حق، حيث هناك معتقلون منذ بداية الاحتلال، وكذلك هناك مغيبون، يستوجب التنسيق مع الإدارة الذاتية في عفرين وشمال وشرق سوريا لكشف مصيرهم. كذلك يتطلع أهالي عفرين إلى تشكيل إدارة خاصة (ذاتية أو محلية) من أهالي عفرين، وهي تعد الحل الأمثل لاستتباب الأمن والاستقرار في عفرين، وتعتبر تضميداً لجراحهم التي تنزف منذ أكثر من سبعة أعوام من الاحتلال. فيما تقديم مرتكبي جرائم القتل والخطف والسلب والاعتقال إلى محاكم عادلة؛ يعد هو الآخر شرطاً لا بد منه لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا عموماً. فإن كانت الإدارة السورية المؤقتة ترى أن العدالة الانتقالية يجب تطبيقها على مرتكبي الجرائم من عناصر النظام البائد؛ فالأحرى بها ألا تكيل بمكيالين أو تتعامل بازدواجية مع الجرائم المرتكبة على الأراضي السورية، ويجب عليها أن تقدّم قادة وعناصر تلك الفصائل المرتزقة إلى محاكم نزيهة وأمام الرأي العام، خاصة أن العديد منهم مدرجون على لائحة الإرهاب الدولي، وهناك ملفات عديدة ضدهم قدمت إلى محاكم حقوقية دولية.

إن موضوع حل ملف عفرين، سيمنح الإدارة السورية جرعة إضافية من المصداقية، ما يسهل عليها حل ملفات جميع الأراضي المحتلة مثل سري كانيه وكري سبي/ تل أبيض، وكذلك منبج، جرابلس وإعزاز وباقي المناطق المحتلة من قبل دولة الاحتلال التركي. فالسوري وصل إلى قناعة تامة أنه لا يمكن أن تتساوى الوطنية والاحتلال تحت جميع الشروط والظروف، وكل مآسي السوريين وأزمتهم هي بفعل الاحتلال، وبمجرد زواله؛ سيتمكن السوريون من إيجاد نقاط التلاقي والتفاهم فيما بينهم، ومهما كانت هوَّة الخلافات العقائدية والسياسية بينهم كبيرة. وبقدر ابتعاد الإدارة السورية الراهنة عن الإملاءات والشروط التركية، بقدر ما تحقق حالة الوحدة المجتمعية والوئام بين السوريين، وتنال ثقتهم، فلا يمكن الرهان على أي دور تركي إيجابي في سوريا، وكلما انغمست الإدارة الحالية في علاقات سرية ومشبوهة مع تركيا، كما غرقت في أوحال ورمال الأزمة؛ تصل إلى مرحلة لا تستطيع فيها النجاة منها. كما أن الإيغال والانخراط في تلك العلاقات يغلق عليها أبواب الانفتاح على الخارج، بل الدول العربية والغربية وضعت الحد من علاقاتها مع تركيا شرطاً أمامها لرفع العقوبات والانفتاح السياسي والدبلوماسي عليها، وهو ما لم تترجمه دمشق حالياً، أو أنها غير قادرة من الفكاك من الأفخاخ التي وضعتها لها تركيا. وهنا يُفترض بها أن تتوجه إلى شعبها كي تستمد منه القوة الكافية لقطع الطريق أمام انتداب واحتلال تركي شامل لسوريا.

الرسائل التي قدمها المجلس العام في حيي الشيخ مقصود والأشرفية عدا عن أنها مطمئنة لكل الأطراف، في ذات الوقت يمكن البناء عليها في إيجاد توافق سوري – سوري، واستنساخ الاتفاق في باقي المناطق السورية، طالما أنه نال تأييداً محلياً ودعماً دولياً وإقليمياً، حيث اعتبرته العديد من الأطراف أنه خطوة جادة ويعبر عن مصداقية قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية في المضي بتنفيذ بنود الاتفاقية الأولى، وتعزز في ذات الوقت من كيان الدولة السورية، ويمكن توظيفها واستثمارها في عفرين وباقي المناطق السورية المحتلة، وتضعها على الطاولة أمام تركيا، وتطالبها بالانسحاب من الأراضي السورية، هذا إن كانت جادة في مسعاها لتنفيذ بنود اتفاقية “عبدي – الشرع”.

كما أن اتفاق حلب فتح الباب أمام سجالات ونقاشات سياسية كثيرة، لجهة إعادة النظر في العديد من الأمور التي تعتبرها الإدارة السورية الراهنة من المُسلَّمات، ولا تعير الاهتمام لجميع الانتقادات التي وُجِّهت لها طيلة الفترة السابقة. وما طرحه عضو المجلس الرئاسي في حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) السيد “صالح مسلم” في حوار مع قناة روجآفا، حول تشكيل اللجان المختصة بتنفيذ بنود اتفاقية “عبدي – الشرع” قريباً، إنما جاء بعد اتفاق حلب، وما أعلن عنه من تشكيل لجنة لإعادة صياغة الدستور السوري، على الرغم أنه لم تُعرف بعد أبعاد عمل ومهام هذه اللجنة، هل هي مقتصرة حول البند المتعلق بإدراج “الاعتراف بالمجتمع الكردي” في الدستور، أم ستعيد النظر في كامل الدستور، باعتباره دستوراً مؤقتاً لم يحظى بموافقة السوريين، بل فرض من جهة واحدة، وهل هي بصدد إعداد عقد اجتماعي جديد يسبق وضع الدستور؟ لا نستطيع التكهن بعمل اللجنة، وما تزمع عمله في الفترة القادمة، لكن ما هو مؤكد أنها ستعمل على تعديل الدستور، وبما يتفق مع تطلعات السوريين.

ويجمع الكثيرون أن اتفاق حيي الشيخ مقصود والأشرفية مع حكومة دمشق كرس من الناحية العملية نظام اللا مركزية الذي ينشده معظم السوريين، كحل للأزمة السورية، بعد أكثر من خمسة عقود من المركزية المفرطة لنظام البعث، وهو ما يدفع سوريا نحو كسر حالة الجمود السياسي التي سيطرت على المشهد العام بعد سقوط النظام البائد، وتجشع باقي الأطراف على البدء بعملية سياسية شاملة، تفضي إلى حوار وطني لا تقصي أحداً، وتشكل مرجعية وطنية سورية، يمكن لها أن تقود البلاد نحو بر الأمان، من الناحية السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية، وتنهي حكم طرف واحد بمفاصل الدولة والمجتمع، وتكسر كل التابوهات الداعية إلى خضوع الأقلية لرأي الأغلبية وما تقرره.

كما أن اتفاق حيي الشيخ مقصود مع دمشق، سيسرع من مساعي إعداد وفد كردي مشترك للحوار مع الإدارة المؤقتة حول حل سياسي مستدام للقضية الكردية، حيث أن الاتفاق حظي بترحيب من قبل معظم الأطراف والقوى الكردية، وتولد لديها الرغبة في الاستعجال للتفاوض والحوار مع دمشق، وأن التأخير في الذهاب إلى دمشق لا يخدم حل القضية الكردية بكل الأحوال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى