أزمة النخب السياسية السورية
مفيد نجم/ نداءبوست
توفرت للأحزاب السياسية السورية فرصة تاريخية أثناء سنوات الاعتقال الطويلة لكوادرها كان يمكن أن تستثمرها للبدء بحوارات فكرية وسياسية للاتفاق على برنامج عمل سياسي وطني واستعادة الثقة المفقودة بينها. لكن هذه الأحزاب التي أدمنت التشهير ببعضها بعضاً والطعن بمصداقيتها وبمواقفها السياسية لم تحاول أن تستثمر هذه الفرصة بما يحقق وحدة مواقفها ويعزز قوة حضورها في مواجهة طغيان الاستبداد وتوحش أجهزته الأمنية، ما أدى إلى تكريس حالة تشتُّتها وضعفها حتى على المستوى الداخلي للحزب الواحد نتيجة التأثيرات السلبية لسنوات السجن الطويلة. إن أول ما كانت تحتاجه هذه الأحزاب قبل الدخول في حوار مع بعضها بعضاً هو القيام بعملية مراجعة نقدية علمية وموضوعية لسياساتها ومواقفها السابقة بغية اكتشاف مكامن الخطأ وأسباب عجز هذه الأحزاب عن تطوير برامج عملها وسياساتها والتي انعكست سلباً على قدرة تأثيرها واستقطابها للجماهير. صحيح أن النظام استخدم جميع وسائل القمع والترهيب والفساد للقضاء على الحياة السياسية، سواء من خلال الزج بجميع كوادر هذه الأحزاب ومناصريها في معتقلاته، خاصة أن هذه الأحزاب عانت في مراحل سابقة مختلفة من الاعتقال والقمع الممنهج أو عَبْر الإغراء وسياسة الإفساد التي ستتعاظم في مراحل لاحقة حتى تحولت إلى علامة فارقة في الحياة السياسة والاجتماعية والثقافية السورية.
كان اجتماع أعضاء هذه الأحزاب في مكان واحد ولسنوات طويلة داخل سجون الأسد فرصة لإزالة الحواجز النفسية والسياسية والفكرية بينها، كما حدث على مستوى التعايش اليومي بين عناصر هذه الأحزاب، لكن أحداً لم يحاول أن يخطو بهذا الاتجاه بسبب فقدان الثقة بين هذه الأحزاب والتباين في الموقف من النظام والعصبوية التي كانت مسيطرة على تفكيرها على الرغم من إدراك هذه الأحزاب لضعفها في مواجهة التغول الأمني للسلطة ومحاولة القضاء على وجودها، وبالتالي الحاجة إلى استعادة المبادرة الوطنية التي تُفشل خطط النظام وتعزز قوة حضورها.
إن ما كان يحتاجه هذا التفكير هو الانفتاح على الأحزاب الأخرى والاعتراف بها كجزء من الحياة السياسية وجعل الحوار البنّاء المجرد من الآراء والمواقف المسبقة باعتباره شرطاً لنجاح هذا المشروع . إن المكاشفة والحوار الفكري والسياسي الهادئ والموضوعي كان يمكن أن يُسهم في تعزيز هذه الحالة الجديدة، وخلق الأرضية المناسبة لأي عمل جبهوي ممكن.
لما حدث أن الانعكاسات السلبية لسنوات السجن الطويلة خلقت حالة من الترهل والتشتت واليأس بفعل المعاناة القاسية الطويلة التي كان يمكنها أن تخلق واقعاً جديداً أكثر حيوية وغنى على المستويين الفكري والسياسي.
لقد ظلت أغلب الحوارات التي كانت تتم في الغالب بين أفراد أو مجموعات صغيرة هامشية وغير رسمية سرعان ما كانت تنتهي بانتهاء تلك اللقاءات العابرة، خاصة عندما كان يظهر التباين والتعارض في وجهات النظر، والذي كان يصل في بعض الحالات إلى نوع من الانقسام، خاصة حيال الأحداث السياسية المتلاحقة التي كانت تجري على الساحة السورية أو على الساحة المحيطة بها مثل الموقف من احتكار حزب الله اللبناني للعمل المقاوم وجعل المقاومة ذات طابع طائفي أو بالنسبة للموقف من حرب الخليج الثانية، وقبل كل هذا الموقف من النظام.
لم يكن أغلب المتحاورين يقبل التنازل عن موقفه والقبول بالرأي الآخر أو التعاطي الإيجابي مع الرأي الآخر ما يعني غياب أي أساس يمكن أن يقوم عليه حوار موضوعي بنّاء خارج التخندق في هذا الموقع أو ذاك. لذلك كان طبيعياً أن تستمر مفاعيل هذه التناقضات في المواقف والرؤى السياسية بعد الانتفاضة السورية وأن تنعكس بشكل كبير على مدى قدرتها على أن تشكل حاملاً سياسياً لأهداف هذه الانتفاضة والتعبير عن مطالبها في الحرية والكرامة من خلال برنامج عمل مشترك تتلاقى حوله هذه الأحزاب والقوى السياسية والوطنية، ويكون قادراً على تحقيق التفاف جماهير الانتفاضة حوله.
إن المقدمات الخاطئة لا بد أن تقود إلى نتائج خاطئة كان على جماهير الانتفاضة وحاضنتها الشعبية أن تدفع ثمنها في الوقت الذي فقدت هذه القوى والأحزاب ثقة الشارع المنتفض بها، وفي الآن نفسه قدرتها على تجاوُز هذا الفشل واستعادة المبادرة من جديد.
صحفي وروائي سوري يقيم في برلين