لقاء موسكو: “تنازلات” مطلوبة من الأسد
عبدالوهاب بدرخان/ النهار العربي
رحلة بشار الأسد الى موسكو لم تكن مبرمجة مسبقاً، لكن استوجبتها ظروف عدة: أعيد “انتخابه” لولاية رابعة على رأس النظام السوري بدعم روسي كبير، وساعده الروس في استعادة السيطرة على الجيب المتبقّي من درعا على رغم مآخذهم على “الفرقة الرابعة” من قواته وقد باتت إيرانية، كما أن روسيا منخرطة في حوار استراتيجي مع الولايات المتحدة وتعوّل فيه على التوصّل الى تفاهمات أساسية في شأن سوريا وغيرها… وبالتالي فإن مرحلة جديدة بدأت بعد مرور عشرة أعوام على تفجّر الأزمة التي حوّلها النظام وحليفه الإيراني الى حرب داخلية طاحنة، وكانت لروسيا فيها مساهمة تدميرية معروفة، بل “غاشمة” بالمعنى العسكريّ، إذ أضاعت بوصلتَي الحل السياسي ومستقبل وجودها نفسه في سوريا، ولا تزال تتخبّط على رغم أنها نالت باكراً “مباركة” أميركية ودولية مشروطة فقط بـ”إيجاد حل حقيقي” قابل للدوام، بدلاً من أن تخضع لرغبة النظام وإيران في إدامة الحرب.
لا يمكن الوثوق بأن روسيا تعلّمت من التجربة، مع أنها تدفع أكلافها وتتطلّع الى تعويض خسائرها أو استعادة ما أنفقته، سواء بالاستثمارات التي يجيزها لها النظام أم بمحاولة إقناع الأميركيين والأوروبيين بتمويل إعادة الإعمار. لكن وجود فرصة للتفاهم مع أميركا قد يدفع روسيا الى أن تكون أكثر حزماً ووضوحاً في توجّهاتها وخياراتها، وتحتاج الى تعاون من جانب النظام بعدما اطمأن وطمأنته الى بقائه وتريد إعادة تأهيله كما تعمل على تسويقه عربياً ودولياً، ولم تخفِ استياءها من محاولاته فتح قنوات خاصة مع الأميركيين والإسرائيليين، مع علمه أن ثمة تنسيقاً روسياً – إسرائيلياً وأن اتصالاته مع واشنطن لن تتمكّن من تجاوز الرغبة الأميركية في تسوية مع الروس.
صحيح أن فلاديمير بوتين انتقد، بحضور الأسد، بحسب البيان الرسمي، الوجود “غير الشرعي” لـ”قوات أجنبية” (أميركية وتركية)، واعتبره عاملاً سلبياً في مسعى “إبقاء سوريا موحّدة”، إلا أن انسحاب القوات الأميركية من الشمال الشرقي – من دون تسوية – يشكّل مصدر قلق للجانب الروسي، لأنه يعني أولاً استمرار العقوبات، وثانياً انفلات الحدود السورية – العراقية لمصلحة إيران، وثالثاً إتاحة اجتياح دير الزور أمام الإيرانيين وأتباعهم، ورابعاً احتمال تفجّر التوتّرات بين الميليشيات الإيرانية وأكراد “قوات سوريا الديموقراطية”. وحتى الضغط على الأتراك كي ينسحبوا من شأنه أن يوجِد فراغاً ستسعى أنقرة الى ملئه بفصائل المعارضة السورية الموالية لها، ما يفتح فصلاً جديداً في حرب تعهّدت روسيا إنهاءها. لكن موسكو تعرف، بل أُبلغت، أن واشنطن وأنقرة توصّلتا في شأن الشمال السوري الى “توافقات” لا تتحدّى الوجود الروسي، بل ترمي الى ترتيب الوضع الذي سينشأ بعد الانسحاب الأميركي. في الوقت نفسه أحرز الروس تقدّماً في التفاهم مع “قسد”، وبعلم واشنطن وموافقتها، لكن يُفترض أن يشمل هذا التفاهم موافقة نظام الأسد وتعاونه، بمعزل عن الإيرانيين.
كان “استدعاء” الأسد الى موسكو بناءً على هذه المتغيّرات، وكانت مشاركة بوتين فيه قصيرة لم تتجاوز عشر دقائق، فيما تضمن ساعات من المحادثات مع وزيري الدفاع والخارجية والفريق الذي يدير الملف السوري. وتؤكّد مصادر مطّلعة أن الموضوع الرئيسي كان تركيا، إذ إن بوتين يريد في المرحلة المقبلة أن يفتح مجالاً أكبر لدور تركي في الشمال شرق الفرات وغربه، ولذلك فهو يتوقع من النظام أن يقلع عن تعنّته وإصراره على القطيعة مع أنقرة. لا تعتبر موسكو إشراك تركيا في التسويات أمراً مفروضاً (بحكم توافقات واشنطن وأنقرة) بل ورقة تحتاجها في المدى المنظور وتمكّنها لاحقاً من الضغط على تركيا نفسها. لكن الأمر يتطلّب، في المقابل، مقاربات جديدة من جانب النظام لفتح حوار سياسي ومعالجة ملفات عالقة وتفاعلاً جدّياً مع أعمال اللجنة الدستورية.
يحاول الروس الإيحاء بأنهم في صدد تغيير سلوك النظام داخلياً، أي في مناطق سيطرته، ويروّجون أنهم في صدد إجراء تغييرات مفصلية في بنية النظام، إذ نصحوه بـ”الانفتاح”، أقله على المعارضة الخارجية المحسوبة على موسكو، بل يضعون ذلك في إطار تسهيل عودة اللاجئين والنازحين. تحدّث بوتين والأسد عن هذه العودة وكأنها أصبحت واقعاً، لكن التقارير الدولية لا تزكّي ما يدّعيانه، وآخرها قول لجنة التحقيق الدولية المستقلة بوضوح إن الوقت لم يحن “للاعتقاد أن الوضع في سوريا مناسب لعودة اللاجئين”، بل إنه يزداد قسوةً بسبب استمرار العنف وانهيار الاقتصاد. ثم إن تجربة درعا كشفت للروس عوامل الخلل والفشل في “مناطق المصالحات” التي رعوها ثم تركوها لجماعات النظام وإيران.
قد تكون “التغييرات” الروسية المزمعة حقيقية وقد تكون وهمية. فالملاحظ، وفقاً للمعلومات، أن محادثات موسكو لم تتطرّق مباشرة الى الوجود الإيراني، ربما لأن الروس لا يثقون بالأسد ونظامه في هذا الملف تحديداً. فإيران ليست فقط محوراً أساسياً في أي حوار روسي مع الأميركيين والإسرائيليين، بل عقبة كأداء أمام أي تفاهم كامل ومريح مع واشنطن، فضلاً عن كونها عقدة تضعف اجتذاب العرب الى التطبيع مع النظام. ويعرف الروس أن النظام يغذي الهوامش بينهم وبين الإيرانيين ويلعب عليها، وفيما يتغاضى عن توسّع الاختراقات الإيرانية في أجهزة الجيش والأمن، فإنه يشجّعها ليستقوي بها على النفوذ الروسي نفسه. لذلك يتجه الروس أكثر فأكثر الى الإشراف على هذه الأجهزة وإعادة هيكلتها، كخطوة لازمة وضرورية لبلورة التفاهمات مع أميركا.
يعرف الأميركيون بدورهم مدى الاختراق الإيراني للأجهزة، أي بمعنى أدقّ لعصب النظام، ويرون أن الروس تأخروا في إدراك ما عليهم أن يفعلوه لضبط الوضع السوري وتوجيهه نحو حلّ سياسي، وتأخروا في الاعتراف بتعقيدات المعضلة الإيرانية، فإيران تستطيع استخدام النظام لتعطيل أي تسوية أميركية – روسية لا تكون هي (والنظام) جزءاً منها. ليس بإمكان الروس وحدهم، في وضعهم الحالي، أن يحسموا أي صراع بينهم وبين الإيرانيين للسيطرة على الجيش والأمن، ما لم يكن النظام متعاوناً معهم. إذاً بات على الأسد أن يختار بين تسوية أميركية – روسية تبقي نظامه لقاء “تنازلات” لإنهاء الأزمة، وبين مواصلة التمترس وراء إيران وبقاء العقوبات من دون حلٍّ دائم.