هل تتمكن “الإدارة الذاتية” من لملمة أوراقها المبعثرة؟
عقيل حسين
مع حراك ديبلوماسي غير مسبوق، يستهدف إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة والعالم، وليس في سوريا وحسب، وفي ظل تغير كثير من المعطيات والوقائع التي يبدو أنها تصب بمجملها في صالح النظام وحلفائه، أطلق رياض درار، الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية “مسد” الذراع المدني للإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا، والتي يهيمن عليها “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، مبادرة تصالح مع تركيا والمعارضة السورية تستحق الوقوف عندها واعتبارها أكثر المبادرات إثارة للاهتمام في حال كانت الإدارة الذاتية مؤمنة بها فعلاً.
تنص المبادرة التي أطلقها درار خلال محاضرة له بعنوان “المعارضة السورية وآفاق الحل” ونقلها موقع “التيار العربي المستقل” على “توحيد الشمال السوري تحت إدارتين شرقاً وغرباً، يكون الجانب التركي شريكاً فيها لبناء مشروع حضاري ديمقراطي يساهم في استقرار المنطقة”.
درار بيّن خلال المحاضرة التي أقيمت نهاية الأسبوع في مناطق الإدارة الذاتية “أهمية أن يكون الاتفاق بين قوى المعارضة مقدّمة لمؤتمر برعاية أميركية أوروبية تركية، لتحقيق تقدم ووحدة اقتصادية بالشمال السوري، إلى جانب تفاهمات إدارية لا مركزية”.
كما أشار إلى أنه يجب التوقف عن توزيع التُّهم والحرب الإعلامية بين أطراف المعارضة، نافياً في الوقت نفسه محاولات وجود انفصال وتقسيم للبلاد أو ارتباط بحزب العمال الكردستاني الانفصالي أو النظام من قِبَلهم.
والواقع فإنه بينما تتضمن المبادرة توجهات طيبة وتفتح آفاقاً مشجعة جداً في ظل التشاؤم المطبق الذي يسيطر على المعارضة، إلا أنها وفي الوقت نفسه تنطوي على ما يستدعي الحذر، وتبقي أبواب التساؤلات مشرعة حول مدى إيمان أصحابها بها ومستوى جديتهم في الطرح، خاصة عندما يقول إنه ليس هناك ارتباط بين الإدارة وبين حزب العمال الكردستاني (PKK)!
لقد سبق أن أطلق مسؤولون في “حزب الاتحاد” وفي الإدارة الذاتية بجناحيها العسكري والمدني مبادرات عدة للحوار مع المعارضة ومع تركيا، لكن دائماً ما كانت هذه المبادرات تولد ميتة بسبب عدم الثقة التي تحكم العلاقة بين هذه الأطراف، والسبب الرئيسي في ذلك هو الارتباط الذي لا يقبل الشك أو الجدل بين “حزب الاتحاد” والإدارة من جهة، وبين “حزب العمال” المصنف إرهابياً من جهة أخرى، ناهيك عن أن معظم تلك المبادرات كانت تتزامن مع ضغوط تتعرض لها الإدارة، من قبيل التلويح بانسحاب أميركي من سوريا سيجعلها مكشوفة، أو تهديدات تركيا بشن عمليات برية ضد قواتها في شمال شرقي البلاد.
لقد تسبب هذا الارتباط مع الحزب الكردي التركي بوصول المعارضة وأنقرة إلى طريق مسدود على الدوام مع الإدارة الذاتية، بل أكثر من ذلك، فقد مُني الحوار الكردي-الكردي الذي أطلقته الولايات المتحدة في سوريا منذ عامين ونصف العام بفشل ذريع حتى الآن بسبب عجز “قسد” و “مسد” عن التخلص من هيمنة قادة وكوادر حزب العمال على الإدارة الذاتية وقرارها، لذا فإن إنكار هذا الواقع سيجعل من أي مبادرة في هذا السياق محكومة بالفشل منذ البداية.
والحق فإنه ليس من السهل تصوّر التخلص من سيطرة كوادر قنديل على الوضع في شمال شرقي سوريا، ويعلم الجميع مدى التغلغل الذي أحكمته قيادة الـ (بي كي كي) في مختلف مستويات ومفاصل الإدارة الذاتية المدنية والعسكرية، إلا أنه ومع ذلك لا يمكن التسليم بأن الفكاك من هذا الواقع مستحيلاً.
نعم يستطيع قادة قنديل وكوادرهم عرقلة أي مبادرة للتصالح مع المعارضة المتحالفة مع تركيا، وهؤلاء مستعدون كما هو معلوم لتفضيل التحالف مع النظام وروسيا على التقارب والتعاون مع تركيا، لكن هل سيكون الاستسلام لهم من قبل القادة الآخرين من الكورد السوريين في حزب الاتحاد والإدارة الذاتية، ومن مختلف المكونات الأخرى في “قسد” و”مسد” هو الخيار الصحيح؟
قطعاً لا، ولنتصور فقط كيف ستصبح عليه الأمور مستقبلاً في حال انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة وإذا ما عاد النظام بدعم روسي إلى السيطرة عليها، وعندئذ لسنا بحاجة إلى خيال واسع لكي نعرف أن النظام لن يقبل سوى بهيمنة كاملة على كل شيء، وإعادة تطبيق سياسة “المزرعة” التي لا يؤمن إلا بها، وسيكون أكثر من ساذج من يظن أن الروس يمكن أن يكونوا ضامنين لأي اتفاقات أو عهود، وعلى الجميع أن ينتظر انتقاماً واسعاً من قبل الأسد وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.
بالمقابل دعونا نتوقع كيف يمكن أن تكون الأمور في حال آمن قادة الإدارة الذاتية بشكل جدي بالاتفاق مع تركيا والمعارضة، وأي مستقبل مشرق يمكن أن تحظى به المناطق الخاضعة لسيطرة الطرفين في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، خاصة إذا ما تم هذا الاتفاق برعاية أميركية غربية تقطع الطريق على أي طموحات للنظام وحلفائه باستعادة السيطرة على هذه المناطق وتضمن الحماية لها.
سيضمن أي اتفاق من هذا النوع تطبيق شكل حقيقي وفعال من الإدارة اللامركزية للشمال، وسيفتح الأبواب أمام تدفق أموال المساعدات وإعادة الإعمار إليها، وسيشجع على عودة كثير من رؤوس المال السورية والاستثمارات في هذه المنطقة البكر، وسيستفيد الجميع من الخبرات والإمكانات التركية في التنمية والتطوير، كما سيمنح حكومة أنقرة حافزاً إضافياً للوقوف بقوة إلى جانب هذه التجربة وتقديم كل الدعم لها عندما ستؤدي حتماً إلى عودة عشرات إن لم نقل مئات الآلاف من السوريين المقيمين على أراضيها.
لقد حقق إقليم كردستان العراق مكاسب ضخمة منذ أن قرر قادته مد يد التعاون إلى تركيا، ويعيش الإقليم اليوم استقراراً وازدهاراً كبيراً بفضل تغليب سياسة التعايش والتصالح والتعاون الداخلي بين كل المكونات، والخارجي خاصة مع تركيا، وهو ما انعكس على جميع سكان الإقليم والمقيمين فيه.
الأمر ذاته ينطبق على “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على إدلب ومحيطها، فهي على الرغم من فك ارتباطها بشكل حقيقي مع تنظيم القاعدة، ورغم النجاحات الأمنية والإدارية التي حققتها خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن سياساتها الداخلية وتطبيقاتها تجاه السكان في مناطق سيطرتها وتجاه قوى المعارضة الأخرى ما تزال محط انتقادات كبيرة، والدعوة لقادتها تبدو ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى من أجل حلّ نفسها والاندماج الحقيقي والجدّي في الجيش الوطني، ليس فقط من أجل التخلص من التصنيف على قوائم الإرهاب، بل والأهم إتاحة الفرصة لتوحّد جميع قوى المعارضة في هذا الظرف الخطير الذي لن يكون من المبالغ القول: إنه يمثل الفرصة الأخيرة لإنقاذ المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من عودته إليها.
لقد قدّم الشعب السوري ملايين الضحايا وبذل، بعربه وكرده وتركمانه ومختلف مكوناته، في سبيل تخلصه من هذا النظام الأثمان القاسية، وسيكون من الكارثي أن تذهب كل هذه التضحيات والأثمان هدراً على مذبح التعنت أو الطموحات الشخصية لبعض القادة أو الأحلام الإيديولوجية للبعض الآخر، وآن للمناطق التي تحررت من سطوة هذا النظام أن تتوحد ويتعاون أبناؤها من أجل تقديم نموذج مشرق في الحكم والإدارة، سيكون كفيلاً بتحقيق السوريين لذواتهم البناءة وإثبات قدراتهم على صنع مستقبل زاهر في حال تم تمكينهم من تقرير مصيرهم، الأمر الذي سيمثل أكبر ضربة للنظام، وبداية لثورة البناء والتغيير المنتظر أن تعم لاحقاً.