السياسات العنفية التي حولت #العراق إلى #عراك دائم…
شفان ابراهيم -تلفزيون سوريا
يشهد العراق عنفاً سياسياً مستداماً، لكنه ليس بالظاهرة الحديثة؛ فحركات التمرد والاحتجاجات الشعبية، تكاد تتخطى القرن من الزمن، خالقةً تنافساً شديداً بين القوميات والمذاهب والطوائف بين بعضها البعض، وبينها وبين السلطة الرسمية والموازية لها. غذتها السياسيات المتبعة والمطبقة منذ الترسيم الجغرافي للحدود العراقية بعد الاتفاقيات الدولية، والتي تسببت بتعميق النزعات ورفض المجتمعات المحلية لسياسات الدمج القاسية القائمة على المحق والإلغاء.
تبيئة العنف منذ مئة عام
خلقت المظاهرات العراقية خلال العقد الأخير، متخيلاً سياسياً شعبياً جديداً، متجسداً بمبدأ التضحية بالذات في سبيل الحريات والديمقراطية والتعددية، بعد أن كان مفهوم التضحية بالنفس مخصصة سابقاً وعلى ممدة عقود عديدة، للأضرحة والمزارات فحسب. فغير ذلك المستجد الشعبي من تصور الأنظمة العراقية المتعاقبة على “معاقبة شعوبها” لردات فعل المقموعين والمظلومين، وتوضح الفرق بين كِلا الفعلين: عنف السلطة المولد للقتل لإحكام السيطرة على الحكم، والرفض الشعبي المستعد للموت سعياً صوب تحقيق العدالة والمساواة بين الرعايا المواطنين جمعياً.
هذه المواجهات خلقت نتائج متصلة ببعضها البعض عادت بالذاكرة العراقية إلى أحداث تاريخية خلت، إذ لم تهدأ ثورات ومعارك العراقيين كرداً وعرباً ضد آلة القمع السلطوي منذ العهد الملكي، وحتى راهن الأحداث. ولمّ يسترحِ العراقُ منذ مئة عامٍ، من القتل والتوترات المذهبية والصراعات القومية، والخلافات السياسية التي كانت الحروب والاضطرابات الدموية، لغة الحوار الوحيدة للسلطة ضد المكونات. فأضحى الموت نهجاً زمنياً تعاقبياً منذ بدايات نشوء الدولة العراقية تحت الانتداب البريطاني إلى الوقت الراهن، ولعبت المصالح الدولية الدور الأساس في تهميش تطلعات وحقوق الشعوب العراقية، والتغاضي عن لغة السلاح المتبعة من قبل جميع الأنظمة والحكومات التي تعاقب على سدّة الحكم، ما مهد لتبيئة العنف ووضعه ضمن سياق محلي بشكل مستديم؛ على خلفية التعامل القاسي مع المجتمعات العراقية المحلية، وتحول اللجوء للعنف إلى نمط سياسي اعتيادي سرع وتيرتها ديناميكيات ودموية تلك الأنظمة، وكأنه كُتب على العراق أن يبقى ساحةً للعراك الأبدي، وهو ما سبب تراكماً سلبياً وتفككاً لحواضر تلك المجتمعات.
مظلومية شعبية ورفض للقرارات الدينية
كنتيجة للإهمال والتمييز خاصة بعد الــ2003 تحول المجتمع السنّي العراقي إلى هوامش مفككة، استغلته معظم التنظيمات الراديكالية ووجدت داعش فيها مرتعاً خصباً للتمدد والتغول؛ نتيجة للفقر وضغط والحرمان و..إلخ وسعت نحو إعادة تركيبه، وفق ما تراه مناسباً لخدمتها. خاصة وأن إحالات الأنظمة القابضة على الحكم بعد 2003، في لجوئها لشرعنة الحروب والتنكيل بالآخر، انطلقت من ميراث وتجارب ممتدة على قرن كامل، فأهملت المناطق السُّنَّية ثم الشيعية أيضاً، وحاولت مراراً حصار كردستان بشتى السبل. وبعد ثورة السوشيال ميديا وحركات الربيع العربي وفضح الفساد والأرقام المرعبة للمليارات المهربة والمسروقة من قوت الشعب القابع تحت خط الفقر المدقع، خُلق متخيل سياسي جديد في مخيال الفئات والشرائح الشعبية الشابة على اختلاف انتمائاتها وهويّاتها المذهبية، والتي شملت حتّى المقدسات الدينية بنقمتها وثورتها ضدها، وعُدّت بذلك نقلة نوعية مميزة على صعيد مواجهة القواعد الشعبية الشيعية لرمزية تدخل المزارات الدينية في القرار الشعبي، معلنة رفضها لديناميكيات الاستمرار في تلك الحالة من الخوف والموت والفقر، في دولة تطفوا على ثروات هائلة، حاملة عوضاً عنها –الرضوخ لقرارات المزارات الدينية- قناعات ثورية ساعية صوب التحرر الاجتماعي والوطني والإنساني؛ لكسر نمط إنتاج الطاعة التي لم تتراجع الأنظمة العراقية عن السعي صوبها.
مواجهة مستمرة بين دعاة التغيير ومعتنقي العنف الدائم
منذ أعوام، لم تهدأ حناجر الشباب العراقي الثائر من ردّ الصدِام والعنف المتبع من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية المختلفة التي لا تعود بقرارها إلى سلطة نظامية أو هيكلية حكومية، بقدرِ ما هي تابعة لأحزاب وتكتلات سياسية، تعيش خارج سياقات التشكيلات الأمنية بشكلها الاعتيادي الشرعي، ما عنى خلق كارتيلات للسلطة، اتخذت من المرجعيات الدينية مصدراً لقرارها. تلك الميليشيات التي أذاقت العراقيين كل أشكال العنف والقتل والتنكيل، شملت الحواضن العراقية من المجتمع الريفي إلى العراق بكليته، ولم تحتج إلى سبب أو تغذية محلية أو حادثة تأسيسية لممارسة عنفها وقتلها، فهي التي سعت وحاولت لاحتلال أربيل/هولير بعد الاستفتاء، وهي نفسها التي قتلت المتظاهرين العراقيين السُّنَّة وحولت الحواضن السُّنَّية إلى خرابٍ ودمارٍ، هادمين كل مقومات الحياة، وبعد أن كان المجتمع الشيعي يُقدم القرابين أثناء زيارة المقدسات/المزارات الدينية تحولت إلى ساحةٍ هُدِرت دماء مرتاديها من الشيعة.
مطالب شعبية من الكاظمي المحاصر
ما يزال المنتفضون العراقيون يطلبون من حكومة الكاظمي تقديم جميع قتلة المتظاهرين للمحاكمات، وهو ما لم ولن تتمكن من القيام به. وربما لن تتمكن من تقديم كبش فداءٍ كحال معظم الحكومات الفاشلة حين ترغب من تبرئة ساحتها، حتّى لو رغب الكاظمي بخلق استقرارٍ سياسي واقتصادي في العراق، لكنه فاقد للقوة الواجب توافرها لتفعيل مسعاه؛ فالفاعل السياسي المهيمن والمسيطر على القرار العراقي، يُحاصر الكاظمي وفريقه، ويمنح الغطاء والحصانة لقتلة العراقيين الثائرين، وهو بحد ذاته العنف المنظم الساعي نحو خمس أهداف مركبة أولها: إزالة الشرعية عن الحكومة المنتخبة، وعكس صورة عجزها أمام الرأي العام المحلي والعالمي، ومحاولة السيطرة على القرار عبر الانتخابات المقبلة..وثانيها: السيطرة على ساحة الاحتجاجات؛ لتحويلها إلى مفاعيل لصالحها في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ثم منع أي حِراك شبابي شعبي، خاصة وأن الفاعل الميداني المتمثل بالميليشيات والحشد الشعبي والتدخلات السياسية العابرة للحدود جعلت من العنف الممارس ضد الشعب وسياسة الإفقار الممنهج، خياراً استراتيجياً لاستدامة وجودها منطلقة من قاعدة أن العنف يولد مزيدا من الطاعة. وثالثها: الحصول على الاعتراف بتلك الأطراف/الكارتيلات الفاعلة خارج سياق تشكل الدولة وشرعية أجهزتها المهيكلة والمرتبطة بالدولة، على إنها جزء من المنظومة العراقية الدفاعية، مع الإبقاء على استقلالية قرارها، وهو يتطلب فوزاً كاسحاً في الانتخابات المقبلة. ورابعها: تعميق الشرخ والمواجهة بين الدولة/ والسلطة الموازية للدولة. والدفع بالقواعد الاجتماعية العراقية لقبول مناخ الاستسلام المراد خلقه. وخامسها: تسييس الهويّات المحلية المختلفة العرقية منها واللغوية والدينية في هويّة مذهبية لا فكاك لهم منها.
وماذا بعد كل هذا القتّل
أمام استمرار الاحتجاجات وإن بوتيرة متقطعة، وهشاشة الانتخابات والتزوير المستمر، واستمرار الاغتيالات والملاحقات لمختلف الشرائح المعارضة، ترسخت القناعة لدى الأجيال العراقية الجديدة، حول غياب مفهوم الدولة، واستمرار تجاهلها لمهامها السياسية والمعرفية والاقتصادية، بل ومضيّ كارتيلات السلطة الموازية للسلطة الشرعية في محاولاتها المستميتة لخنق وسحق كُل المساعي الشعبية في خلق نظام سياسي ومعيشي بعيد عن لغة العنف والسلاح، ما خلق حافزا وواعظا نفسيا لدى العراقيين في استمرار تظاهراتهم في سبيل تنقية جميع مفاصل حياتهم من الإرهاب والطائفية والفقر. هذه العلاقة العضوية المعقدة بين المتظاهرين والمعُنِفين، خلق عدّة أشكال من الصراعات بينهما، رُبما من الصعب إيجاد الحلول لها مع راهن الكيان الحالي للعراق. فالإجابة عن أسئلة المتظاهرين، وتفكيك ردات فعل القتلة والميليشيات، تدفعنا للبحث عن إمكانية العيش معاً مجدداً وفق النمطية والشكل السياسي الحالي للعراق، وهل من حكمة أو مصلحة عراقية عليا بدفع المواليد الجدد، بعد مئة عامٍ من المقتلة على الهويّة، وتحمل النشء على تحمل وتجرع أكثر وأبشع أنماط العيش المنحط، كمن سبقوهم من الأجيال الأخرى.