إرهاصات فشل المخطط التركي في سوريا

محمود علي
يراقب السوريون، على مختلف مرجعياتهم وانتماءاتهم السياسية، مجريات المعارك الشرسة الجارية في محيط سد تشرين وجسر قره قوزاق، يقيناً منهم أنها ما أن تحط أوزراها؛ فإنها سترسم خارطة عسكرية وسياسية جديدة في سوريا. ومن المؤكد أن ما بعد تلك الحرب لن يكون كما قبلها، حيث ستُفرض معادلات توازن سياسية مختلفة عن سابقاتها، وحتماً ستغير مسار العديد من التطورات في سوريا، وبما لا تتوافق مع المزاج العام التركي، أو على الأقل لن تتحقق أهدافها من وراء هذه المعركة المفتعَلة غير المتكافئة، والتي لا مبرر لها على الإطلاق، وهذا ما يدفع تركيا بالدرجة الأولى إلى الإيغال فيها أكثر، وعدم التزامها بوقف إطلاق النار الذي رعته وأشرفت عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
تنظر كل قوة إلى تلك المعارك من زاوية مختلفة، ووفق مصالحها، فتركيا تحاول كل جهدها تقويض الإدارة الذاتية، والعبور إلى شرق نهر الفرات، والوصول إلى فرض حصار مطبق على كوباني، والتمدد وصولاً إلى عين عيسى والطبقة ومن ثم تهديد الرقة. المخطط التركي لا ينتهي عند منطقة معينة في سوريا، فحسب العقيدة التركية تعتبر تركيا أن “حدود تركيا حيث يصل الجندي التركي”، وهي عقيدة استعمارية توسعية طورانية.
وليس خافٍ على أحد أن تركيا تحاول الاستفادة من سقوط النظام السوري السابق، وما تركه الانسحاب الروسي من فراغ، وفرض سيطرتها العسكرية والسياسية والاقتصادية على كامل الجغرافيا السورية، خصوصاً على المناطق الكردية، وهذه إحدى دوافع حربها الرئيسية في سد تشرين. إلا أن فشلها في السيطرة عليه، رغم مرور أكثر من شهرين على المعارك الضارية فيه، يشير إلى فشل الرهان التركي على الاستفراد بسوريا، وجعلها تعض على أصابعها، وباتت في موقع الباحث عن قشة تتمسك بها، وطريقة ما تنتشل نفسها من المستنقع الذي أقحمت فيها قواتها، وتغطي على هزيمتها المدوية أمام مقاومة قوات سوريا الديمقراطية.
مارست تركيا وما زالت، شتى أنواع الضغوط على الإدارة السورية الجديدة، في دفعها نحو الصِدام والاشتباك وإعلان معركة مفتوحة مع قوات سوريا الديمقراطية، والحيلولة دون الوصول لأي تفاهمات واتفاقات بين الطرفين، وتالياً استبعاد الكرد والإدارة الذاتية من المشاركة في رسم مستقبل سوريا.
لقد سقط هذا الرهان أيضاً، حيث أن الحوارات بين الإدارة السورية و(قسد) تجري بإشراف وضمانات دول عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وتقطع الطريق أمام أي تدخل تركي لتعكيرها. ورغم أنها لم تتوصل بعد إلى نتائج واضحة، إلا أن استمرار الحوار بحد ذاته يعد انتصاراً للطرفين في ظل الموانع والعوائق التي تضعها تركيا على سكة الحوار.
لجأت تركيا، وبعد أن تكشفت الخيوط الأولى لهزيمتها في معارك سد تشرين وقره قوزاق، إلى العمل بسلوك وطريقة الجماعات الإرهابية، وافتعال عمليات تفخيخ وتفجير في عدة مدن، خصوصاً في منبج، التي تئن تحت وطأة ممارسات مرتزقتها. فعملية التفجير الأخيرة التي أودت بحياة العشرات من المدنيين، انبرت تركيا وكل من يدور في فلكها مثل جماعة الإخوان المسلمين، إلى توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى قوات سوريا الديمقراطية. وسرعان ما فندت الأخيرة المزاعم والاتهامات التركية، عبر بيان، دعت فيه إلى السماح لها بالتحقيق في حيثيات العملية الإرهابية، مؤكدة أن لديها الخبرة الكافية لكشف الضالعين فيها والجهة التي تقف وراءها. وجاء تأكيد مصدر بريطاني مسؤول أن تركمانياً كان يقود سيارة دخلت من جرابلس وفجرها في منبج. وإثرها التزمت تركيا وجميع وسائلها الإعلامية صمت القبور. وهذه العملية تعيد للذاكرة ما قاله رئيس الاستخبارات التركية في عام 2015 ووزير خارجيتها حالياً “حقان فيدان” المدعو “لدينا القدرة على إطلاق صواريخ من الأراضي السورية نحو تركيا واتهام جهات أخرى بها” ونبرر حربنا عليهم.
غاية تركيا وراء التفجيرات الإرهابية هي إلصاق صفة الإرهاب بقوات سوريا الديمقراطية، واستمرار نشر الحقد والكراهية ضدها، وفرض وقائع بالدم، وبث الفوضى واستدامة القتال، لتعتاش على المستنقعات الآسنة، وعلى حساب دماء السوريين واستقرار وأمن وطنهم. فالحرب الإعلامية التركية لا تقل ضراوة عن أصوات المدافع والدبابات وغارات الطيران الحربي والمُسَيَّر، وتفوقت حتى “غوبلز” في نشر الأكاذيب يميناً وشمالاً ضد الكرد و(قسد)، وهي حرب تهدد بتفكك ما تبقى من النسيج الوطني والمجتمعي السوري. إلا أن الأصوات التي تناغمت مع الحملات الإعلامية المضادة بدأت بالخفوت والتواري خلف إصبعها، بعد أن انكشفت حقيقتها، والتضليل الذي تمارسه علانية، فسقطت وتلاشت مثل فقاعات الصابون في الهواء. فالتحشيد الإعلامي التركي، ومعه جوقة المطبلين والمزمرين لم يعد أحد من السوريين يلتفت إليهم، بعد أن رسم الميدان معادلات جديدة أفرزت الغث من السمين، والحقيقة من الديماغوجيا البائسة. فالتظاهرات الشعبوية التافهة والتي لا معنى لها، والتي قادتها ونظمتها ثلة منبوذة مارقة في دمشق ضد (قسد) أتت بمفاعيل اجتماعية وشعبية ونتائج عكسية، ومثلت دعاية لـ(قسد) أكثر مما أدانتها.
غير أن أطراف أخرى ضمن الإدارة السورية الجديدة، وبشكل أدق؛ ضمن “هيئة تحرير الشام”، تقف ضد توجهات “أحمد الشرع” في مواصلة الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وإنجاز أي اتفاق يمكن أن يفضي إلى حل وطني سوري، ويفتح الطريق أمام مشاركة جميع القوى الوطنية السورية في رسم ملامح الدولة السورية المستقبلية، وهذه الأطراف تتقاطع مصالحها مع تركيا أكثر، وترتهن لها، وتنفذ أجنداتها في سوريا، وتنزع عن نفسها صفة “الوطنية السورية”، وتجنح إلى تنفيذ مشاريع طوباوية وأجنبية لا تمت بواقع سوريا والسوريين بشيء. إن تلك الأطراف تؤمن بالعنف، وبالعنف فقط، في تحقيق أهدافها. ولا يُستبعد أن تكون إحدى هذه الأطراف لها يد في التفجيرات الحاصلة في منبج، خاصة بعد الدعوات الشعبية لتدخل الأمن العام في المدينة. فتلك الأطراف ما تزال تتبنى نهج “جبهة النصرة”، في فتح الطريق أمامها عبر التفجيرات والاغتيالات، وخلق صدمة رعب لدى الأهالي للقبول بالأمر الواقع.
إن ضبط هذه الأطراف التي تعيث قتلاً بناء على هوية الانتماء الطائفي والمذهبي في مناطق مختلفة من سوريا؛ هي إحدى المهام العاجلة أمام الإدارة السورية الحالية، خاصة “أحمد الشرع”، إن كان بالفعل يسعى إلى حقن دماء السوريين، وعدم الانجرار إلى حرب أهلية أخرى.
فمثلما أن القوى الدولية وضعت الإدارة السورية الجديدة، وخاصة “أحمد الشرع” تحت مراقبتها ومجهرها، وتتابع أفعاله وليس أقواله، كذلك الشعب السوري يتابع حيثيات الأحداث وتطوراتها، ويأمل أن تستجيب حكومة “الشرع” لمطالبه، وفي مقدمتها نشر الأمن والاستقرار، وخلق مناخ من الطمأنينة كي يتسنى للنازحين واللاجئين العودة إلى مناطقهم ومنازلهم، ومن ثم معالجة الأوضاع الاقتصادية السيئة جداً، والشروع بإشراك ممثلي جميع مكونات وفئات الشعب السوري في إدارة البلاد، وعدم الاستئثار بالسلطة من قبل فئة معينة، والادعاء بأنها وحدها ضحت في سبيل إسقاط النظام. فلا يوجد في طول البلاد وعرضها من لم يقدم تضحيات أو لم يتأثر بالأزمة، فالمحاباة والمفاضلة بين السوريين، والكيل بمكيالين لا يستقيم في الحالة الراهنة التي تمر بها سوريا، بل يستدعي تحقيق أقصى مستويات الوحدة الوطنية، والانطلاق نحو بناء سوريا الديمقراطية اللامركزية المنشودة، لتغدو نموذجاً رائداً في المنطقة، وعدم الانجرار إلى الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية بأي شكل من الأشكال.
لقد حان الوقت كي يضمد السوريون جراحهم، وأن يعتمدوا سياسات وطنية واضحة، عبر الدعوة لمؤتمر وطني شامل لا يقصي أحداً من ممثلي المكونات السورية، ويضع برنامجاً على عدة مراحل، يفجر كل الطاقات الوطنية ويضعها في مكانها الصحيح، فما يأمله السوريون ويوحدوهم هو القطع مع المرحلة السابقة بكل إسقاطاتها وتبعاتها السلبية المدمرة، والانطلاق نحو بناء وطنهم بكل شغف وحب!