في ثبات السيناريوهات في سورية
عمار ديوب/ العربي الجديد
تعلن تركيا في الأسابيع الأخيرة أنها ستقوم بعملية عسكرية في الأراضي السورية. لم تحدّد مكانها بدقة، هل في تل رفعت، أم منبج، أم كوباني؛ وحاول الرئيس أردوغان، في لقاءاته أخيرا مع رئيسي روسيا، بوتين، وأميركا بايدن، أن يقيم توافقاً بصدد العملية مع بوتين، الذي رفض ذلك، ومع بايدن الذي بدوره رفضها. الاستنتاج هنا أن روسيا وأميركا لا تريدان تغييراً في مناطق النفوذ، والتي أصبحت تركيا تعاني منها؛ فتركيا ترفض وجود قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على حدودها الجنوبية، وتعتبره تهديداً لأمنها القومي، وروسيا تعزّز من وجودها في تل رفعت، وفي الشمال الشرقي وتجري مناورات عسكرية مع النظام، وتستهدف منها التدخل التركي في سورية، للقول إن النظام السوري باقٍ. وتتحالف “قسد” بدورها مع روسيا، والملاحظ أن أية عملية عسكرية تركية قد تؤدي إلى تصعيد خطير بين كل من روسيا وتركيا. ورسالة أميركا إلى تركيا في الإطار ذاته، وجاءت تصريحات المبعوث الأميركي السابق إلى سورية، جيمس جيفري، بتحذير تركيا من التورّط في عملية عسكرية.
في الخلاف الإسرائيلي الإيراني، لم تتوقف دولة الاحتلال عن قصف المواقع العسكرية الإيرانية في سورية، وزادت حدّتها بعد لقاء رئيس الحكومة، بينت، وبوتين، بينما كان النظام وإيران يرغبان بإيقاف القصف، سيما أن إيران، ومع إحكام النظام سيطرته على درعا، راحت “تُبعد” قواتها من تلك المدينة. يبدو أن بوتين وبينت اتفقا على استمرار العمليات الإسرائيلية، وبغض النظر عن الاتفاق حول إرسال معلومات مسبقة إلى الجانب الروسي عنها، فهناك مسائل تخصّ التوافق الإسرائيلي الروسي، وتتعلق برسائل توصلها روسيا إلى أميركا وتخصّ قضايا كثيرة، ومنها ما يتعلق بسورية أو لبنان أو إيران وسواها كثير. إذاً لم تغيّر إسرائيل من سياساتها إزاء إيران، وربما هناك توافقاتٌ سريةٌ مع روسيا يخصّ كل الوجود الإيراني وضرورة إنهاء الجانب العسكري منه في سورية. إيران التي تقرأ المواقف الدولية الرافضة تمدّدها الإقليمي وفي سورية، والتي ترى ضغطاً دولياً من أجل عودتها إلى الاتفاق النووي. ويتفق الروس مع هذه الرؤية، تحاول ألا تغيّر من وجودها في سورية، وتعزّزه في مختلف المدن السورية، و”تحاول” فقط الابتعاد عن الحدود المباشرة مع إسرائيل، وطبعاً هذا لا يرضي الأخيرة. تعزّز إيران وجودها بصورة خاصة في حلب والمنطقة الشرقية، وأجرت، أخيرا، هجماتٍ خطيرة بالطائرات المسيرة على قاعدة التنف. وكان التعليق الأميركي بشأنها أنها ستردّ في الوقت والمكان المناسبين. الجدير ملاحظته هنا أن حدّة الخلافات بين الأميركان والإيرانيين تتصاعد، وإذا كانت إيران تحاول اختبار تلك “الحدّة”، عبر المسيّرات المذكورة، أو السيطرة على ناقلة النفط في بحر عُمان، أخيرا، أو التأخر بالموافقة على العودة إلى النووي، فإن أميركا “الديمقراطية” لا تستبعد أية خياراتٍ بالموقف من إيران، وإنْ كانت تحاول ضبط الموقف الإسرائيلي، الذي رَسم خياراته كما يبدو في التشدّد ضد إيران، ووضَعَ سيناريوهاتٍ لعمليات عسكرية في الداخل الإيراني، ولكنه ينتظر الموافقة الأميركية.
تتخوّف تركيا من سيناريو روسي جديد، قوامه أن تسلم تركيا بموجبه مناطق واسعة من إدلب لها، وأن تعطي أميركا لروسيا مناطق واسعة في شرق سورية. تؤكّد روسيا ضرورة أن يفتح الطريق إم 4، وهذا يستدعي إخراج هيئة تحرير الشام من أريحا وجسر الشغور، وربما جبل الزاوية بأكمله؛ وهذا سيعني طرد ملايين السوريين إلى الحدود التركية، وسيقلّص قوة تركيا في سورية. رفضت تركيا ذلك في لقاء بوتين أردوغان، أخيرا، وضغطت على هيئة تحرير الشام للتخلص من الجهاديين في الكبانة في ريف اللاذقية، حيث كان أبو مسلم الشيشاني، وجماعات أخرى متطرّفة، يسيطرون، وفعلاً سيطرت هيئة تحرير الشام. لا ترفض روسيا تلك الجماعات فقط، وإنما ترفض هيئة تحرير الشام أيضا. وعكس ذلك، تريد تركيا تسويقها، بينما الروس والأميركان لا يتقبلون ذلك. يمكن أن تضحي تركيا بالجولاني، ولكن حين تتوفر التوافقات الإقليمية على تسويةٍ تؤدي إلى الحل السياسي في سورية، وتأخذ فيها حصة كبيرة. لا يتفق السيناريو الروسي مع تركيا، بل يريد تهميش الوجود التركي أكثر فأكثر، وهذا ما فعلته روسيا منذ تدخلها، والبدء بمسار أستانة ومناطق خفض التصعيد، ووصلت الآن إلى توافقات مع “قسد”، وعزّزت أخيرا وجودها في تل رفعت وفي كل المناطق التي تسيطر عليها “قسد”. وبالطبع، هذا يعبر عن توافق روسي أميركي حول ذلك. تدفع أميركا “قسد”، بصورة مستمرة، للتوافق مع روسيا. وبالتالي، وفي الوقت الذي تحمي فيه “قسد”، ونقصد أميركا، فهي تريد لروسيا أن توسع من سيطرتها على سورية، وعلى حساب تركيا وإيران، وبما يحفظ أمن إسرائيل.
تنامت في الأشهر الأخيرة أوهام النظام السوري، ومن خلفه إيران وربما روسيا، أن أميركا في طريقها إلى تعويم النظام السوري، وشكل الاتفاق حول خط الغاز وإمداد الكهرباء إلى لبنان عبر الأراضي السورية ذروة الأوهام تلك. حاول النظام تسويق الوهم، وربما استساغ ذلك في لقاءات وزير خارجيته، فيصل المقداد، على هامش الاجتماع العمومي لهيئة الأمم المتحدة، ولقاء هذا الوزير بعددٍ من الوزراء العرب. هذا الوهم سرعان ما بَهُتَ ألقه، فلم تعد سورية إلى جامعة الدول العربية، ولم تخفف أميركا من عقوباتها على النظام السوري، وهناك تسريباتٌ تؤكّد أن موسكو طلبت من نفتالي بينت التوسط لدى الإدارة الأميركية لتخفيف تلك العقوبات، وربما ستطلب منه تخفيف الضغوط الخليجية عن لبنان مع اشتداد أزمته الراهنة إثر تصريحات سابقة لوزير الإعلام، جورج قرداحي، والتسريبات الخاصة بوزير خارجية لبنان، عبدالله بوحبيب، والتي تؤيد السياسة الإيرانية في لبنان، وتقلّل من “هيبة” الدور الخليجي، وتحديداً السعودية، في لبنان أو اليمن. وقد انبنت أوهام النظام في سورية بصورة خاطئة على رسائل تتبادلها روسيا وأميركا، وصارت الأخيرة واضحةً فيها، حيث تتقدم بخطوة نحو حلحلة الوضع السوري، كي تبادلها روسيا بخطوةٍ مماثلة. إذاً السيناريو الأميركي هذا لا يُقصد به تعويم النظام إقليمياً أو دولياً، بل هدفه تدوير الزوايا مع روسيا، وحثّها على إيجاد تسويةٍ، تسيطر بها روسيا على سورية، وهذا جزء من السياسة الأميركية اتجاه روسيا في سورية والمنطقة، وبهدف إبعادها عن الصين وزرع الشقاق بينهما.
إذاً ليس من تغيير في السيناريوهات الإقليمية تجاه سورية، مع التأكيد أن روسيا وإسرائيل وأميركا تحاول تقليص النفوذين، التركي والإيراني، وبشكل متدرّج، ووصولاً إلى تسويةٍ للوضع السوري، وهذا ما تنتظره كل من أميركا وإسرائيل من روسيا.