ترتيب البيت الكوردي ضرورة قومية ووطنية..
بقلم: م. محفوظ رشيد
من قراءة سريعة للمشهد السوري يستخلص المتابع للأحداث وجود تفاهمات غير معلنة بين الولايات المتحدة وروسيا كدولتين عظميين بشأن إدارة الأزمة القائمة والبحث عن حلول لها عبر تقاسم للنفوذ وتبادل للمصالح مع أخذ الأمن القومي للبلدين واسرائيل من منظار استراتيجي بعين الاعتبار، ولعل أبرزالقواسم المشتركة في رؤاهما هي: اعتماد القرار الأممي 2254 كأساس للحل النهائي، والابقاء على النظام الحالي وإعادة تأهيله مع تغيير سلوكه، وأن سورية لن تعود كسابقة عهدها لما قبل 2011، واشراك الكورد في بناء سوريا الجديدة، وتحييد كل من إيران وتركيا كقوتين فاعلتين على الأرض في رسم سوريا المستقبل..
ولكن لكل من موسكو وواشنطن أساليبها وآلياتها الخاصة في فرض وشرعنة حضورها وتنفيذ أجنداتها، فروسيا التي تدخلت عسكرياً كحليف تقليدي للنظام السوري وبطلب منه لحمايته من الانهيار أنشأت قاعدة حميميم لقيادة عملياتها القتالية، ونسقت مع إيران وتركيا عبر آستانا وسوتشي في إلحاق الهزيمة بالمعارضة واستعادة السيطرة على ما خسره من مناطق في معاركه، أما أمريكا فقد تدخلت عبر بوابة محاربة الارهاب بعد أن شكلت التحالف الدولي وحررت جميع المناطق التي احتلتها “داعش” بعد أن دحرتها من آخر معاقلها “باغوز”، وذلك من خلال الدعم والتنسيق والتشارك مع قوات حماية الشعب والمرأة الكوردية ypg و ypj والتي تحولت إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وساهمت في تشكيل الادارة الذاتية في مناطق شمال وشرق سوريا بغطائها السياسي مجلس سوريا الديمقراطي “مسد”.
روسيا وأمريكا تستهدفان إيران وتركيا لاخراجهما من المعادلة السورية آخذتان بالحسبان أنهما قوتان اقليميتان محوريتان ومؤثرتان في الساحة السورية وتمتلكان أوراقاً ضاغطة ورابحة تشاغبان بها على حدود مصالحهما وتعيقان مشاريعهما، فتركيا التي تحتضن المعارضة وتدعمها وتتحكم بمصيرها وتستغلها في تمرير سياساتها من منطلقات طائفية (سنية) عبر الأخوان المسلمين وإدعاءات أمنية وخلفيات عثمانية توسعية ونزعات عنصرية (ضد الكورد بصورة خاصة) واستغلالها في احتلال مناطق كثيرة ونهب ثرواتها واجراء تغييرات ديموغرافية فيها، إضافة إلى كونها عضو في حلف الناتو. أما إيران القوة النووية المهددة للأمن الاقليمي والدولي فهي العمق الاستراتيجي للنظام السوري بتغولها في مفاصل الدولة الاقتصادية والعسكرية..، وربطها بمحورها الشيعي الممتد من طهران مروراً بالعراق إلى لبنان عبر أذرعها السياسية والعسكرية ذات التأثير المباشر على الداخل السوري كحزب الله.
المعارضة السورية المنقسمة على نفسها وبين الداخل والخارج والمنصات تبعاً لولاءاتها وأماكن إقاماتها تحولت معظمها (باستثناء القوى الوطنية الديمقراطية) إلى مجاميع مرتزقة تحت الطلب وبخاصة المسلحة منها التابعة للائتلاف، فقد أصبحت عصابات إرهابية وعميلة تشارك في احتلال مناطق سورية وترتكب فيها الجرائم الشنيعة والانتهاكات الفظيعة وبشكل خاص المناطق الكوردية منها (عفرين ورأس العين وتل أبيض)، فقد اجتمعت أخيراً تحت مظلة الهيئة العليا للتفاوض مع النظام عبر اللجنة الدستورية باشراف الموفد الأممي غير بيدرسون، التي فشلت في تحقيق أي تقدم يذكر بالرغم من عدم وجود تباين في رؤى الطرفين تجاه المبادئ الأساسية المقترحة من قبلهما لصياغة الدستور مثل هوية الدولة (العربية) ومصدر التشريع (الاسلام) ومركزية النظام..إلخ، ورفض مبادئ الديمقراطية والعلمانية والتعددية واللامركزية وعدم الاعتراف بحقوق جميع مكونات الشعب السوري واحترام خصوصياتها وبالتحديد الكورد الذين يعتبرون القومية الثانية من النسيج الوطني التاريخي.
أما الكورد الذين يعتبرون أكثر تنظيماً بالمقارنة مع غيرهم، فقد أصبحت قضيتهم من الأولويات ذات الاهتمام الدولي سياسياً ودبلوماسياً وإنسانياً، ويسيطرون على مناطق تزيد على ربع مساحة سوريا، يحمونها بواسطة منظومة أمنية عسكرية مدربة ومجربة، ويديرون شؤونها من كل النواحي ويتحكمون بثرواتها، وذلك كإدارة ذاتية وكأمر واقع بدعم ورعاية من التحالف الدولي بزعامة أمريكا، بعد أن أثبتوا جدارتهم في محاربة الارهاب (داعش والنصرة وأخواتهما) وإلحاق الهزيمة به وتحرير مناطقها من سيطرته.
بالتمعن في اللوحة السورية وبما سردناه نستنتج أن شكل سوريا المفترض والمطلوب (ما بعد عمليات القتل والتدمير والتهجير التي خلفت الكثير من الخسائر والضحايا وعمقت الكثير من الأحقاد والنعرات وبدلت الكثير من المفاهيم والقيم) كي تكون وطناً لجميع أبنائها على قاعدة المواطنة الحقيقية والشراكة الفعلية في السلطة والثروة والادارة، لا بد من بناء نظام ديمقراطي علماني تعددي لا مركزي يحقق العدل والمساواة في الواجبات والحقوق، ويراعي العهود والمواثيق الدولية واللوائح الأممية ذات الصلة، وهذا ما يجب أن يسعى لتحقيقه كل قوى الخير(الوطنية الديمقراطية) عبر حوار حر ومفتوح بين كافة المكونات دون إقصاء أو تهميش.
تحاول روسيا إمالة الكورد إلى جانبها واشراكهم في العملية السياسية عبر تحقيق مصالحة وتسوية مع النظام لاستعادة سيطرته على مناطق الادارة الذاتية بأقل الشروط والضمانات على غرار محافظة درعا، ومساعيها في خفض التصعيد (منطقة بوتين – أردوغان) بادلب، مستغلة الضغوط التركية وتحشداتها العسكرية وتهديداتها بالاجتياح، وذلك لرفع أسهمها وفرض أجنداتها في الحل النهائي، وبالمقابل فإن أمريكا تؤكد التزامها بحماية ودعم “قسد” الحليفة والشريكة في محاربة “داعش” التي ماتزال تشكل خطراً على الأمن والاستقرار في المنطقة، وتحذر كافة الأطراف من أي تجاوز لخطوط وقف اطلاق النار بعد عملية ما تسمى ب”نبع السلام”، وتسعى لتوحيد الصف الكوردي عبر مبادرتها (الحوار الكوردي بين PYNK وENKS) وذلك لتمكين الادارة الذاتية القائمة وتطويرها وتوسيعها، وجعلها نموذجاً يحتذى به ويثبت على أرض الواقع وفي الدستور كحلقة رئيسية من تنفيذ مشروعها الاستراتيجي في رسم الخارطة السياسية لسوريا والمنطقة.
ومن جانب آخر فإن الدول الاقليمية والمقتسمة لكوردستان تعمل المستحيل وبكافة السبل والوسائل وعلى جميع الأصعدة لاستبعاد الكورد من العملية السياسية والحؤول دون نيلهم أية حقوق أو مكاسب قومية، وتؤلب الرأي العام على الكورد بتهم الارهاب والانفصال والإلحاد.. لتبرر سياساتها الشوفينية القمعية تجاههم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تمارس كافة أشكال الترهيب والترغيب وعبر الحرب الخاصة (الاستخباراتية والاعلامية والنفسية..) لتمزيق صفوفهم وتشتيت خطابهم وتحريف بوصلتهم واجهاض نضالاتهم ونسف تطلعاتهم التحررية.
ومما سبق نصل إلى نتيجة منطقية وحتمية وهي أن استتباب الأمن والسلام والاستقرار – حالياً ومستقبلاً – في سوريا والمنطقة مرهون بحل القضية الكوردية حلاً عادلاً داخل الدولة الوطنية الموحدة، لأن الكورد أصبحوا الرقم الصعب داخلياً وخارجياً وعامل ضمان وأمان وتوازن ضمن الخليط الاثني والديني والطائفي والتنوع السياسي والثقافي في ظل التغيرات السريعة والتنافسات الشديدة بين القوى العظمى لأجل إرساء نظام عالمي جديد على أنقاض الدول القومية المركزية ذات اللون الواحد واللغة الواحدة (كما يحصل في العراق والسودان)، والتي تشكلت عقب الحرب العالمية الأولى بموجب اتفاقات استعمارية مثل سايكس بيكو ولوزان والتي تنتهي صلاحيتها عام 1923، لذلك ومن الأهمية والضرورة والحاجة ترتيب البيت الكوردي وتقويته وإعادة تأهيله كي يحتل مكانه المناسب واللازم على الساحة لبناء الدولة السورية الوطنية الديمقراطية المنشودة بما يتوافق وضرورات العصر وتحدياته، وينال الكورد في إطارها كامل استحقاقاتهم العادلة والمشروعة.