لماذا تتدهور الليرة التركية
العملة، جزء صغير من الاقتصاد النقدي، تدرج ضمن شبكة عنكبوتية اقتصادية معقدة، من النقد بأنواعه إلى البضائع بكل أوجهها إلى العلاقات الاقتصادية بكل أشكالها. فتراجع سعر صرف العملة التركية، المرتبطة بالدولار واليورو، أو انهيارها فيما لو أستمرت، ستخلق إرهاصات على كلية الاقتصاد، ومطبات في البعد السياسي أمام مسيرة حزب العدالة والتنمية، قد تقضي على هيمنتها، وتحول تركيا من دولة شبه ديمقراطية إلى شبه دكتاتورية، كما هي عليها إيران، خاصة فيما إذا بلغت مرحلة عدم إمكانية الحد من التضخم.
في المرحلة الحالية، قد يكون تأثيرها على الاقتصاد العام للدولة ضعيفا؛ مع إصرار أردوغان؛ تخفيض سعر الفائدة، تحت نظرية المفهوم الاقتصادي المرجح على أنه سيزيد من الاستثمارات ونمو الاقتصاد، ودعم التصدير، وبالتالي زيادة الطلب على العملة الوطنية، ولكن ديمومة التراجع في عملتها بدأ تؤدي إلى بروز تناقضات ما بين سعر السوق أي التضخم وبين التطور الاقتصادي السنوي. وهنا تكمن وجهي التناقض ما بين الشعب الذي يهمه الحاضر الجاري، وحكومة أردوغان الذي يركز على التطور الاقتصادي للحفاظ على مكانة تركيا كدولة اقتصادية كبرى وبالتالي قادم الشعب التركي.
يستند أردوغان، على العلاقة الطردية بين سعر الفائدة والتضخم، على أن أسعار عملات الدول الكبرى، ومن بينها تركيا، المتطورة اقتصاديا، لن تتأثر بحركة المراكز المالية العالمية، أو الضغوطات الدولية، أو الحصار الاقتصادي، بل ستكون تحت هيمنة السياسة الاقتصادية، الداخلية والخارجية، علماً أن خلفيات انهيار الليرة التركية متشعبة (تعتبر حالة عالمية نادرة بسبب مركزها الاقتصادي العالمي) اقتصاديا: مرتبطة بالعلاقات التجارية، والاتفاقيات الرأسمالية العالمية القصيرة والطويلة الأجل، بعكس انهيار الليرة السورية والتي هي نتيجة الحرب، وغياب العملة الصعبة والتي كانت تدعم من قبل إيران على مدى السنوات السابقة، المنقطعة على خلفية تضييق الحصار الاقتصادي الأمريكي عليهما. أو اللبنانية المتأثرة بالعملية السياسية، والتخطيط الاقتصادي المتحكم به قوى إقليمية، وتأثرها بحالة الحرب في سوريا. فحل إشكالية الحالتين السورية واللبنانية ليست بتلك التعقيدات التي تجتاح الأسواق التركية. وسياسيا: على خلفية صراعها مع الدول الكبرى وخلق بؤر ساخنة في المنطقة، وعرض ذاتها ليس فقط كمنافس، بل صاحبة الحلول لقضايا الدول التي تتعرض فيها مصالح أمريكا وروسيا وأوروبا للخطر، إلى جانب تطويف العالم السني الراديكالي في المنطقة.
ما يجري في الاقتصاد التركي هي نتاج مرحلة زمنية قصيرة الأجل مقارنة بالدورات الاقتصادية العالمية والمراحل المعقدة، خاصة بعدما أدرجتها الدول الكبرى ضمن الدول العشرين في العالم، وارتبطت بعدها بشكل متين بالاقتصاد العالمي، والأسواق الدولية، وحركة التجارة العالمية والتضخم في الأسواق العالمية، الناتج عن جائحة كورونا، وتجميد الشركات الرأسمالية العالمية لعقودها الطويلة الأجل، التي ساهمت سابقا في رفع سقف الدخل الوطني التركي، لخلفيات سياسية، منها: تقديم تركيا كدولة إسلامية ليبرالية، المنهجية التي تخلى عنها أردوغان بعدما رسخ مكانة تركيا بين مجموعة الدول العشرين، لينحرف نحو العالم الراديكالي، بل ودعمتها في الواقع العملي، وهو ما أيقظ العالم الرأسمالي لمواجهته، وتنبيهه على الركيزة التي نهض عليها، وكيف بإمكانهم الحد من تجاوزاته.
تركيا وعلى مدى عقد من الزمن ما بين عامي 2006-2016 كانت تتلقى ما بين 250 إلى 400 مليار دولار من السيولة وبالعملة الصعبة، بلغت قرابة 75% من إجمالي الدخل الوطني، أي كانت تصل في بعض السنوات إلى قرابة 300% من الموجود في الداخل، وهو ما رفع من مكانة أردوغان وحزبه، وحافظ على استمراريته في القدرة على تشكيل الحكومة لمرات متتالية دون مشاركة الأحزاب الأخرى في البرلمان، بل ومكنه من تغيير بنود في الدستور التركي.
المساعدات الخارجية، وحسب تقارير BIS cross-border figures قدمتها معظم الدول الكبرى في العالم، فعلى سبيل المثال، أقرضتها البنوك الإسبانية قرابة 84 مليار دولار، والفرنسية قرابة 39 مليار دولار، والإيطالية قرابة 17 مليار دولار، واليابانية 14 مليار دولار، وبعض البريطانية أكثر من 19 مليار دولار، وبعض الأمريكية تجاوزت 18 مليار دولار، والألمانية وغيرها من الدول الأوروبية وهنا لا نتحدث عن قروض وعقود الشركات المالية الأمريكية والتي لا يتم التصريح عنها، وتكررت على مدى سنوات، إلى درجة أن هذا الدعم الضخم أدت إلى تأثر بنوك تلك الدول بتدهور الليرة التركية، وعلى إثرها خسرت شركات القطاع المالي مثل UniCredit و BNP Paribas و BBV وغيرها، قرابة 3% من سعر أسهمها في الشهور الأولى من تدهور الليرة، رغم أن سعر الفائدة كانت قرابة 18% حينها وكانت مربحة لتلك البنوك، أي عندما أرتفع الدولار إلى سوية الخمس ليرات، والتي كانت في الواقع نتيجة تحجيم قروضها، ورفع سقف سعر الفائدة على تركيا وشركاتها، وعدم تجديد العقود القديمة، تحت ضغط دولها، والتي تؤثر بدورها على تراجع سعر صرف عملتها.
علما أن تلك المساعدات في السنوات الأولى من حكم أردوغان، أنقذت اقتصاد تركيا المتهالك، ونقلتها من دولة مديونة إلى الدولة 18 عالميا، ومن مستوى الدخل الوطني الذي كان يتراوح على حدود 280- 300 مليار دولار سنويا في السنوات الأخيرة من القرن المنصرم، وقبل أستلام أردوغان السلطة، إلى قرابة 850 مليار دولار عام 2019م، على أمل أن تتجاوز سويات التريليون دولار في عام 2030م، ومن عجز في الميزانية بلغت في نفس المرحلة قرابة 20% إلى دولة تنافس الدول الكبرى في تصدير بعض الأنواع من الأسلحة، والتي ستستمر لسنوات قليلة قادمة قبل أن تتراجع وبقوة، بغض النظر عن التناسي لمسيرة التضخم الذي يهدم سعر العملة الوطنية والمتأثر بدوره بتخفيض سعر الفائدة، وبالتالي قد يبلغ قريبا سويات التأثير على الاقتصاد العام. فمثلما أنقذت تلك المساعدات ليرتها التي كانت الدولار تعادل مليون ليرة تركية، إلى سوية الليرتين حتى قبل سنتين، تحاول اليوم أن تعيدها إلى مستنقعها الماضي…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
23/11/2021م